الإزدواجية اللُغَويَّة… أزمةُ هوِّية

Views: 1583

د. طوني شمعون

تُشكِّل الإزدواجيةُ اللُغَويَّةُ حالةً طبيعية في مُختِلف لغات العالم. غير أنَّ هذه الإزدواجيةَ تُشكِّل حالةً مرضيةً في مجتمعاتنا العربية… وباتت تعبِّر عن حالة التردِّي والهزيمةِ الحضارية التي تعيشها هذه المجتمعات في حاضرها، نظراً لاهتزاز العلاقة بين الفصحى والعامية… فقد فرض الإنكسار الحضاري الذي تعيشُه المجتمعاتُ العربية اليومَ، حالةً من التردِّي اللساني وأدَّى إلى اهتزاز العلاقة بين اللغة والحضارة، ففقدت العلاقةُ بين الفُصحى والعاميةُ ذلك التوازنَ الخلاقَ الذي كان يتميّز بقوَّته وخصوبتِه، وتحوَّلت تلك العلاقةُ إلى ظاهرة مرضيَّة خانقة تفرُض نفسها اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً في مختلف طبقات الحياة والوجود في المجتمعات العربية …

والجديرُ ذِكرُه أن الإزدواجية اللغوية تباينت مظاهرُها بِتبايُنِ العصورِ والمراحل العربية. فالإزدواجيةُ مثلاً في العصر العباسي هي غيرُها في العهد العثماني وليست كحالتها الآن في مرحلة الركودِ الحضاري؛ ففي مراحلِ الإزدهار كانت الإزدواجية تعبيراً عن حالة تقدمٍ حضاري، حيث فرض حضور اللغة العربية وتوسُّعُها في سائر البلدان، ظهورَ مستوياتٍ لغوية تتباعد وتتقارب في اللغة العربية الفصيحة… أما اليومَ فإنَّ هذه الإزدواجية تبدو أكثرَ عمقاً وخطورة وهي تعبِّر عن حالة انكسارٍ حضاريٍّ شامل…

 

مُشكلاتٌ وإشكاليات

بناءً على ما تقدَّم، نستنتجُ أنَّ مشكلةُ ازدواجية اللغة مُشكلاتٌ وأنَّ إشكاليتَها إشكاليات… ونختصرها على الشكل التالي:

المشكلة الأولى: التباعد الكبير بين العامية والفُصحى إلى حدِّ الفِصام كما في بعض دول المغرب العربي كالجزائر مثلاً.

المشكلة الثانية: قصورُ العامية كما الفُصحى عن تلبية احتياجات الإنسان في العصر الحالي (عصر العولمة والعلوم والتكنولوجيا)…

المشكلة الثالثة: غياب المرجعيات الرسمية التي بإمكانها إنقاذ الوضع وتوجيه وتقويم مسارات اللغة من خلال إيجاد أطر مؤسساتية ونظرية تماماً كما تفعل الدول المُصدِّرة للغاتها والتي تقدِّر تماما أهمية اللغة كسلاح فعال أسوة بالأسلحة الأخرى كسلاح المعرفة والتكنولوجيا. (فرنسا مثلا الأكاديمية الفرنسية…الفرنكفونية… الخ)

أما المشكلةُ الأخيرةُ والأخطرُ فهي تشظي الهُوية العربية الجامعة كما تشظي الهويات القومية.

فالهُوية في آخر المطاف لغةٌ قبل أي شيء واللغة هوية ونعني باللغة ليس فقط أداةَ تواصل بل لغةَ حضارةٍ معينة بكل تجلِّيات هذه الحضارة العلمية والأدبية والفلسفية والسياسية…

 

انقسامات حادة

أما في لبنان وهذا أكثرُ ما يعنينا نحن اللبنانيين… فقد أصابنا ما أصاب سائر الدول العربية من تشظٍ للهوية وبالتالي من إزدواجية لغوية وقد شهِد لبنان منذ أمد بعيد كما في سائر الدول العربية، انقساماتٍ حادةٍ حول موضوع العامية والفصحى وقد أخذ بعضُها طابَعاً إيديولوجياً قومياً أو دينياً… وقد تنوعت مواقف المفكرين حول هذا الموضوع بين رافضٍ للعامية ومؤيدٍ للفصحى والعكس صحيح أيضاً، كما برز موقف وسطي توفيقي يدعو إلى لغة ثالثة تُقرِّب المسافات بين العامية والفصحى…

غير أنني لن أدخلَ في شرح هذه المواقف بل سأكتفي بنقل تجربتي الشخصية حول هذا الموضوع بعيداً عن أي إيديولوجية دينية أو قومية أو فكرية خاصة، وأنني لا أستسيغ الإيديولوجيات على أنواعها، لأنها تتعارض مع نبض الحياة وتطورها. على أمل أن تكون مقاربتي موضوعية علمية مجرَّدة…

فاسمحوا لي أن أقدم لكم تجربتي المتواضعة وأعدكم بألا أطيل…

 

تقريب الفصحى من العامية

أبداً بتجربتي التعليمية حيث أجد طلابي تائهين بين عامية ينطقون بها ولا يكتبونها وبين فصحى يكتبونها ولا ينطقون بها علماً أن القاعدة الأساسية في اللغات هي أن نكتبَ كما نفكر وأن نفكر كما نكتب … وهذا ما لا يحصل مع طلابنا نتيجة هذا الإزدواجية فيلجأون حينها إلى لغة ثالثة يعبِّرون من خلالها عن حاجاتهم الفكرية والعاطفية والعلمية. (الأغنيات… الإنترنت…العلوم…)

وهنا أقترح بعض الحلول كأن نقوم بتبسيط قواعد اللغة العربية وتقريبها من اللغة العامية أو تأخيرها حتى لحين إكتمال ونضوج فكر المتعلمين على اعتبار أن قواعد اللغة هي قبل أي شيء علاقات منطقية يصعب استيعابها في مراحل الطفولة المبكرة… كما أقترح تحديث مناهج اللغة العربية كي تطال أوسع نشاطات المتعلمين الفنية والعلمية…. وهذا شكل من أشكال التجسير، أي مد الجسور بين العامية والفصحى…(وهنا أثني على دور بعض وسائل الإعلام في خلق مساحة مشتركة بين العامية والفصحى وتستحق ان نشكرها على دورها هذا لا أن نحاربها فإذا قالت إعلامية او إعلامي الوفِيات بدل الوَفَيات، مش مصيبه، أو قال “أن” عوضا عن “إن”… مش كارثه…هيدا مش تخريب للفصحى، بالعكس هيدا تقريب بين الفصحى والعامية، وخاصة ازا هالتعديل ما أصاب جوهر اللغة وما تشوه المعنى المقصود والمتلقي فهم…

سعيد عقل واعتماد اللغتين

أما تجربتي الثانية فهي على المستوى الفكري الإبداعي…فأنا اكتب الشعر بالعامية وأكتب النثر بالفصحى ولا أدري السبب في ذلك وقد تكون الإزدواجية أحد هذه الأسباب ….

علما أن هذا الموضوع قد تناوله المفكرون والادباء اللبنانيون منذ زمن فها هو سعيد عقل في الخمسينيات من القرن الماضي يدعو إلى ترك اللغة الفصحى واستخدام العامية وقد استعمل للعامية الحروف اللاتينية مع بعض الإيضاحات… غير انه عدل عن هذا المشروع لاحقاُ لأسباب كثيرة وعاد إلى اعتماد اللغتين الفصحى والعامية…

وحده بين المفكرين الشاعر موريس عواد التزم العامية اللبنانية واعتبرها لغة قائمة بذاتها وكتب بها شعرا ونثرا ورواية وترجمة (فعل هذا قبله الشاعر الإيطالي دانتي حين دعا إلى نبذ اللغة اللاتينية واعتماد العامية الإيطالية وقد نجح مسعاه وتركت اللغة اللاتينية الساحة للغات القومية كالإيطالية والفرنسية وغيرها….)

ولا نغفل هنا دور الأخوين رحباني في الإعلاء من شأن العامية اللبنانية غناءً وشعراً ومسرحا…

بالمُحصلة لم أورد هذه الأمثلة تحزباً للعامية ودعوة لتغليب اللهجات على اللغة الأم (علما ان هذا حق وليس جريمة … فما دون الله كل شيء قابلٌ للبحث لا بل يجب أن يُبحث دائما وذلك لخير البشر ولا يجب ان يكون هناك “تابوات” في هذا المجال )… بل للإضاءة على واقع إزدواجية اللغة في لبنان وعلى تجربتي في هذا المجال.

 

مفترق طرق وجودي

وأنهي مقاربتي بثلاث:

الأولى: نحن الآن كلبنانيين وكعرب على مفترق طرق وجودي على مستوى الهوية وبالتالي على مستوى اللغة.

ثانياً: إن المحاولات الفردية في توجيه مسارات اللغة، ضرورية ولكنها غيرٌ كافية. (ما بيكفي أدب موريس عواد او طه حسين او او…هيدا شغل جماعي على مستوى مجتمع ووطن)

-ثالثاً واستطراداً ضرورة وجود مرجعيات رسمية وأعني بها الدولة ودورُها في اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة وتحديد أهداف لصالح الفُصحى أو العامية أو لصالح الإثنتين معاً وإيجاد أطر مؤسساتية ونظرية لتحقيق هذه الأهداف تماماً كما تفعل الدول الضنينة على هويتها ولغتها.

رابعا: ترك الامور تجري على سجيَّتها على اعتبار أن اللغة كائن اجتماعي ينمو ويتطور وفق قوانين طبيعية تلبي حاجات البشر بمعزل عن إرادة البشر….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *