رواية “ت مفتوحة” لهبة قطيش… حفر عميق في تشظّي “الأنا”

Views: 728

زياد كاج

العزيزة الصديقة الكاتبة هبة قطيش،

تحية عطرة من القلب من بيروت الى الجنوب الحبيب—أرض العدس والصبر والصبير والقبلات المجانية. تحية صادقة شفافة من بحر بيروت الى تراب وحقول الجنوب الغالي، المبلل بالمطر والعرق والدماء، والى القلوب-الخوابي من دموع وفراق وضحك وأمل، والى جبال شامخة لا تشيخ، وأنهار تتشيطن في الوادي. تحية الى جنوبنا الكريم المعطاء فكراً وأنواراً  ركبت البحار، فصارت منارات في كل القارات.

أما بعد،

لقد قرأت بتأنٍ ومتعة روايتك الثانية “ت مفتوحة” الصادرة عن ” منشورات زمكان”، 260 صفحة، 2024. أحببت واستمتعت بالتعرف على عوالم شخصياتها الغنية واستمتعت بحفرك العميق في تشظي “الأنا” لكل شخصية، وبعض الجمل استوقفتني طويلاً، فسرقني الشرود. عشت حيوات اُخرى فنسيت ضيق وثقل الزمن ولو الى حين.

شخصيات الرواية بقيت متباعدة بعض الشيء، لكن قطبتك الصوفية للحبكة الروائية وصدمة الواقع والمؤامرة المخفية على “جلنار” وعالم “يامن” المأزوم والمعقد..كلها عوامل ورطتني في المعارك النفسية ورحلات البحث عن الذات وتحدي الأقدار. حسبي أنك ظهرت أكثر في شخصية جلنار المميزة والعنيدة وهي “الحية دون حياة”، والمحبة “للأماكن الشاسعة حيث يتساوى الجميع”، والتي عاشت حياة ممزقة  في وسط عائلي منكسر وغير آمن ..”مائدتنا المليئة بكل شيء الا راحة البال والحب”.

  يامن شخصية موفقة جداً، رسمت خيوطها العريضة من ماض مأزوم ومن عقد دفينة لازمته منذ طفولته المعذبة في دار الأيتام. “الحب بالنسبة له هو حاجة للشعور بالأمان”، وهو”يلتهم البكاء كوجبة دسمة”، ويعترف في الفصول الأخيرة بجريمة خطيرة  ارتكبها بمساعدة صديقه انتقاماً ودفاعاً عن كرامته.  يامن، رغم تعدد علاقاته النسائية، هو هارب من ماضيه، ومن حبه الحقيقي لجلنار. هو تجسيد لحقيقة أن أقدارنا ترسم لنا مسبقاً وتحدد لنا مسارات حياتنا. وكما يقول الشاعر الإنكليزي:”الطفل هو أبو الأب”.

   تعرفت في روايتك على شخصيات “سلاف”، “ريمي”، “وائل”، و”ألونا”..ولكل منها قصة ونكهة وصراع وبحث عن المعنى الوجودي. عالم نسائي “مؤدلج” يبحث عن الحب.  في رفقتهن  جولة سريعة ونقاش حول الأديان السماوية، والتصوف (قصة شمس الدين التمريزي وجلال الدين الرومي)، وتحليل لظاهرة الحجاب في الاسلام، مع الاشارة الى ظاهرة “داعش”..”فليفجر نفسه إذا اراد..وليتخمر في دهاليز السجون”، وهي عبارة أتت على لسان سلاف في تعليقها على ميول أخيها المتطرفة!!

 

وهل من أخت تتمنى لأخيها هذا المصير!! وكانت الصدمة عند تعرفت جلنار على أم يامن صدفة على الكورنيش البحري، وصولاً الى اكتشافها أنها كانت ضحية مؤامرة حيكت لها منذ نعومة أظافرها.

أحببت في “ت مفتوحة” طريقة الكاتبة قطيش في لعبها على الخط الزمني وفي وصفها الدقيق للعواطف والأحاسيس والأمكنة التي دخل اليها خيالها الواسع والكريم. قلم هبة يهتم بأدق التفاصيل لدرجة أنه أحيانا لكثافته يضيع على القارئ توتر اللحظة وما سيليها. مهضومة وخفيفة ظل..”فص ملح وداب”، وتهوى الحكم والأقوال الفلسفية “كل الخدوش العالقة تحت جلودنا، المدفونة بين طيات مساماتنا هي أثار سياط الماضي”، “جميع الديانات ترجم أرواحنا، تنحر أعناقنا قرابين على مذبح الإله”. الكاتبة وصافة من الدرجة الأولى.

أرادت قطيش طرح كل المواضيع الإشكالية في روايتها: عادة ختان البنات، ظاهرة القبيسيات في الشام، العنف الجنسي في البيوتات، العوائل المفككة، العنف الجنسي واستغلال الأطفال ..وصولاً الى عادة شرب القهوة وأسرارها. فكان لها ما أرادت. الفصول الأخيرة أتت متسرعة قليلاً كمن يريد أن يسدل الستار ويذهب الى بيته للراحة بعد عرض متعب. فهمت من النهاية، أن الشر هو المنتصر وأن الحقيقة العارية صعبة ومرة. وأن علينا أن نكتشف فرويد جديدا لكي يحلل إنسان هذا العصر المأزوم حتى النخاع الشوكي.

  عزيزتي وصديقتي، يا ابنة “بنت جبيل” الصامدة والمرابطة، أيتها الأم والزوجة والأخت الفاضلة والمرأة العاملة في المجتمع والمناضلة الصامدة أمام الخطر اللئيم. حماك الله، ومبارك عملك الذي استطعت شغله وحياكته بإتقان وتفان رغم كثرة انشغالاتك والتهديد بالنزوح والقصف المستمر. جميل أن يمنحنا الجنوب الغالي ثمرة أدبية جديدة واعدة وعنيدة رغم غيوم اليأس وضبابية المشهد وخطورة المرحلة.

كتبت الروائية ليلى بعلبكي روايتها “أنا أحيا” فمنعت روايتها وصودرت وكانت أول روائية تقف أمام قاض. ذكرتني روايتك بها. في المجال الأبداعي يفضل صعود الدرج “درجة درجة”. فالوميض المفاجئ يعمي البصر. 

بانتظار المزيد. 

كل السلام والى اللقاء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *