الثورة البرقعديّة وجوهرود الحريّة

Views: 57

د. جوزاف ياغي الجميّل

برقَعد … عنوان يغري بالإبحار. والمركب بساط ريح إلى عالم الدهشة.

برق ورعد.

البرق خاطرة تومض في الفكر، تتجاوز العينين إلى القلب. والقلب في حيرة وانفعال.

والرعد التزام الأديب حرّيّة الإنسان وكرامته.

البرق قنديل ديوجينيّ الصفات يضيء الليل للعابرين، إلى عالم القلق والالق.

والرعد صوت صارخ في بريّة يهيب بالقرّاء أن يُعدّوا سبيل القراءة بالإحساس لا بالحواس.

وهكذا تظهر براعة الكاتب الدكتور محمد إقبال حرب في نسج خيميائيّة العلاقة، بين البرق والرعد، بحيث يصبح الاثنان واحداً، وتكتمل الصورة في مرآة الإبداع.

برقعد لوحة جداريّة نحتها الأديب حرب محاولاً إعادة هندسة الظاهرة الكونيّة في قالب عرفانيّ يختلط فيه النظر بالسمع. وكأنّنا أمام الخمرة النواسيّة في نشوتيها المباركتين، أو امام الأذن البشاريّة التي تعشق قبل العين احيانا.

البرق في خواطر حرب هو الدهشة/ النور، والرعد هو صوت الحقيقة. وبين الدهشة النورانيّة والحقيقة العرفانيّة المدوية كشف صوفيّ عميق الجذور.

يقول حرب في الخاطرة الخامسة:” دروب الدهشة تصفع الوجدان بصوت الحقيقة”.

دروب الدهشة نور أزليّ يفاجئ الناظر إليه، كذلك الحقيقة تصدمه بنورها الساطع. أما صوتها الذي يصفع فهو الرعد. وهل صوت الله إلاّ في الرعد، كما يقول العهد القديم؟

يقول الإمام القحطاني في نونيته:

والرعد صيحة مالك وهو اسمه ..يزجي السحاب كسائق الأظعان

والبرق شوظ النار يزجرها به … زجر الحداة العيس بالقضبان

وقد ورد في الحديث الشريف عن الرعد أنّه “ملَكٌ من الملائكة وُكلَ بالسحاب”.

من جهة اخرى، يصبح البرق شوقا والرعد صداه. وفي هذا يقول حرب، في الخاطرة العاشرة:” ضمور الشوق أمات رجع الصدى”.

إنّه اللقاء المتجدّد بين البرق والرعد, كما يلتقي عالما النور والظلال في الفلسفة الافلاطونية فيغدو البرق نور الشوق يرسل شرارته الى القلب مباشرة فتشعل نار العشق التي تحول القلب/الهشيم الى رماد. أما الرعد فهو رجْع صدى البرق، يطالب بعودته الى ارض الواقع قائلا له: ايها البرق عد.

أجريت مسحاً إحصائيّاً لكلمة العنوان في الكتاب فاتت النتيجة مفاجئة لانها غابت بشكل تام، ما عدا في الصفحة الاخيرة، حيث يقول الكاتب:

كن “برقعد”

شكّ يفلعُ ويقينٌ يزرعُ

وهذا ما دفعني الى الربط بين البرق والرعد وعنصري الشك واليقين. فأتت النتيجة لافتة للنظر لأنّ الخواطر خامرها الشك الباحث عن اليقين. ولكنّه شكٌّ في القشور، لا في اللباب، أو الجوهر.

يقول الكاتب حرب:

تقديس الأموات لن يبعث فينا الحياة.(الخاطرة 4)

وقد تخرج كلمة الأموات عن مفهومها الحياتيّ إلى وصف الممارسات الدينيّة السطحيّة التي تُظهر نوعاً من المراءاة، فيما أصحابها يجهلون البعد الحقيقيّ للدين. وهذا ما يُؤكّده قول حرب:

ويل لأمّة تتوضّأ بدماء أبنائها لتُصلّي صلاة الشكر.(الخاطرة 32). إنّها “الويل الجبرانيّة” الصارخة في ضمير الأمّة والشعب. ويُصبح الشكّ في قاموس حرب ذا نزعة ديكارتيّة، فيُحذّر من المتمسّكين بتعاليم دينيّة نظريّة، في حين يقترفون الكبائر ولا يأبهون. يقول:

ما زال يكتب حكاية الرجل الذي طُرد من الجنّة لقضمه تُفّاحة. لكنّه لم يكتب حرفاً واحداً عمّن يُتخمون بأنواع التفّاح والخطايا طمعاً بجنّة ثمنها بضع تفاحات.( الخاطرة 44)

في المقابل، يُعلن الكاتب حرب إيمانه اليقين بمبدأ الحرية النابعة من عمق الذات. يقول:

للحرّيّة طعم زلال لا يستسيغه العبيد.(الخاطرة 56 )

وقد تحمل العبودية بعدا ثقافيا له معنى اجترار الماضي ورفض التجديد. وبهذا يصبح البرق رمزاً للمعرفة الإشراقيّة الآتية من العلاء، ويغدو الرعد صوت الثورة الإنسانيّة على الظلم والظلمات.

من جهة مقابلة، يظهر إيمان عميق لدى الأديب حرب بالله الغفور الرحيم. وهذا ما يحول شكه المنهجيّ الى يقين. يقول: ” كم أثمت ونسيت/ وكم أثمت وتذكّرت/ وما زالت عين الله ترعاني”( الخاطرة 57). وهذا اليقين الايماني يعيدنا الى شعر ابي نواس حين يقول:

لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً فإنّ حظركه في الدين إزراء

كما يثور الأديب حرب على المرائين” الديدان” الذين يقتلون الإنسان وينهبونه ويشكرون الله. والله منهم براء. ( الخاطرة 16)، وبذلك يتضح الدين الحقيقيّ الذي يدعو اليه، انه دين احترام حرّيّة الإنسان، قيمة القيم، و”سرّ اللقاء مع السماء”.( الخاطرة 25) وهذا أمر لم يَعه السياسيّون فعدّوه نجاسة ( الخاطرة 27)

وفي المجال الفكري يثور الكاتب على الرقّ الجديد الذي أتت به الرقّاقة الرقميّة، فحوّلت الإنسان إلى آلة (الخاطرة 46). ويلتقي مع الشاعر ناصيف اليازجي في رفض البكاء على الميت او الفرح بالمولود؛ لأنّ مصير الاثنين إلى فناء، طعاماً للدود، يقول حرب :

صام وصلّى وقدّم القرابين

مات فالتقفته الديدان ولم يحضرمُنكر ولا نكير( الخاطرة 97)

كما يقول في خاطرة اخرى:

تفرحون لمولود جديد يشارككم البؤس والكذب والرياء

وتبكون عندما يستعيده الرحمن

ابكوا لقدومه وابتهجوا لرحيله( الخاطرة 65)

محمّد إقبال حرب، خواطرك قصيدة إنسانيّة. كلّ خاطرة منها بيت القصيد، وومضة فكريّة فلسفية تتجاوز القشور الى اللباب، وتؤمن ان الانعتاق درب الانسان الى السماء، وانه بالحب تتحقّق أنا الإنسان وتكتمل وحدة الوجود.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *