سجلوا عندكم

“المنفرد” لـ وفيق غريزي صوت صارخ في برية الخراب

Views: 332

د. جان نعوم طنوس 

كتب ميخائيل نعيمة في احد مؤلفاته: “متى كانت الجماهير تفرّق بين راعيها وجزارها؟” وفي هذا السياق قال سعيد تقي الدين، قولته الشهيرة: “الرأي العام بغل وكديش ناعورة”. واضاف “ما ابلغ القحبة عندما تحاضر بالعفاف”.

هذه الأقوال وسواها، وبوسعي تعديد العشرات في هذا المجال، تدل دلالة واضحة على خلل عميق وغير عادي في سيكولوجية الجماهير تطبيقا للمثل القائل “كما تكونون يولّى عليكم”، والذي ندعوه حضارة أو ثقافة نابع، في المقام الاول، من هذه البؤرة الاساسية التي تشعّ منها الأفكار والمعتقدات والسياسة والفنون، ذلك أن الشعوب العظيمة تبدع من لا شيء كالشعب الألماني، بعدما تخلص من اللوثة النازية التي دمرت بلاده والقارة الأوروبية، اعاد هذا الشعب البناء من جديد ونهض كالفينيق بتجدد القوى والطموحات. ومثله أمة اليابان، ومعلوم هو الخراب الهائل الذي حدث، اعاد تجديد الحياة، وبدلا من لوثة الاحتلال والقتل، عملت على فرض سيطرتها الاقتصادية على العالم كله. 

أسوق هذا الكلام لأؤكد حقيقة مهمة لعلها اساس الأساس، الا وهي أن الشك باب اليقين، وأن الفكر النقدي هو الجدير بتصحيح الأخطاء، وأي فرد، وأية جماعة لا تخطىء ولا تصيب. أما في هذا الشرق التاعس فالزعماء والقادة السياسيين أو الثقافيين فمعصومون تماما عن الخطأ، إنهم ايقونة مقدسة ومدرسة مثالية “في النهب والسرقة”، ونحن الأتباع خلقنا تلامذة، وسوف نظل ابد الدهر تلامذة فاشلين حيال معلم لا يخطىء، مع ان هذه الاخطاء تتكرر منذ اكثر من قرن، وربما منذ مئات السنين.

 

تعدد محاولات الاصلاح 

لا يمكن بناء دولة دون بناء شعب، ولا يمكن بناء شعب دون الحد الأدنى من الأخلاق، وكما قال أمير الشعراء احمد شوقي: وانما الأمم الأخلاق”، ولكن عظمة الأخلاق تكمن ايضا في التفكير النقدي، بما فيه نقد الذات الخاصة والعامة، وهو ما يعادل الأديان كلها الندامة والتوبة، أي الاعتراف بالأخطاء تمهيدا لإزالتها. 

ولقد تعددت محاولات الإصلاح، على نقاوتها، منذ الكواكبي حتى اليوم، وكلها رغم نفاستها ذهبت ادراج الرياح لأن البؤرة الأساسية أو السيكولوجية الشعبية لا تقبلها، بل أنها لا تحفل بها، ايمانا منها “بالأنظمة”، أي الكذب والنفاق والدسائس والمؤامرات… وكلها تؤدي إلى الخراب، أي “سدوم وعامورة” جديدتين. فاليأس عند الصفوة شعور واقعي، ومع ذلك يجب أن نكتب ربما لكوكب بعيد. 

وهذا الصديق الصدوق الشاعر والمفكر وفيق غريزي، أعد لقمة خبز معنوية، لا مادية، ورماها في البحر، أو في هذا المستنقع الواسع، فكتب كتابه الفريد “المنفرد – كتاب للأجيال المتنورة التي لم تولد بعد”. وقد استعار القالب على حد تعبير نعيمة في عرضه لكتاب “النبي” لجبران، من الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه ومن جبران نفسه، ولكنه (وفيق غريزي) لم يتقيّد بهذه التعاليم، بل اعتمد على تجربته الخاصة، وعلى تراث من الروحانيات متأصل منذ زمن بعيد. ويهمنا القول إن كتاب “المنفرد” كتاب تغايري، غربل الكثير من اراء نيتشه وصوّب آراءه، وناقضها، خصوصا أن الكثير منها، ولا نقول كلها، تفتقر الى الأدلة والبراهين الفلسفية، فماذا اذا في جعبة الشاعر والمفكر وفيق غريزي؟ 

 

ما في جعبة غريزي الفكرية

مسألة المسائل عند نيتشه هي “موت الله”. ومعلوم أن الفيلسوف عمانوئيل كانط، المستحق لقب فيلسوف، قد انتقد الميتافيزيقا كلها، واعلن أن الأدلة على وجود الله مكافئة للأدلة على عدم وجوده، ثم جاء نيتشه بعد فلاسفة الثورة الفرنسية، وجهر بعبارة صادمة هي موت الالوهة.. وقد استعاد غريزي هذا الأمر حين يقول احدهم للمنفرد، وهو النبي الجديد القديم: “الم تعلم أن الآلهة قد ماتوا واندثروا؟ وكل القيم التي تركوها وراءهم قد تلاشت وزالت من العقول؟”.

مسألة محيّرة، لأن كانط شكك بكل شيء وقال بما معناه، إننا لا نعلم شيئا عن الماهيات المطلقة وان كنا نعلم أشياء عن الظواهر الحسيّة، فمن المفضل عدم القطع واليقين التام.

فكان لابد لوفيق غريزي أن يتصدى لهذا الموضوع، فردّ عبر نبيه المنفرد قائلا: “انتم يا عشّاق الموت والعدم، نذر شؤم… انتم تنبحون كالذئاب المفترسة”.

 وباختصار، ان موت الإله نوع من العدمية النفسية والذئبية في السلوك، فكان بذلك موافقا لجبران الذي رفض الموضوع برمته، على ما هو معروف في كتاب النبي، ولكنه قال: “لا تعنوا بحل الأحاجي والاسرار، انظروا إلى الله يضحك مع اولادكم، ويشرق مع الشمس …”. ومعنى ذلك أن شاعرنا غريزي لم ينجرف مع الموجة السائدة، فالانفتاح لا يعني تبني اراء الغير، بل أنه يعني الغربلة أو النقض وإعمال الفكر.

 

نقض فكرة الانسان الأعلى (السوبرمان) 

أما مسألة الانسان الأعلى، أو السوبرمان فهي خاضعة ايضا للبحث والمراجعة. إن عبارات نيتشه قطعية جازمة، واحيانا غامضة، ولعلها لا تقل دوغمائية عن التعصّب الديني القديم. وقول غريزي: “كل ما قيل لكم عن الإنسان الأعلى ما هو إلا وهم وأضغاث احلام.”، ويضيف: “ليس بامكانكم الاحاطة بعالم الالوهة بل الالوهة تحيط بعالمكم”. وهذا ما يذكّرني بقول المفكر المصري زكي نجيب محمود: “إن المحدود لا يسع اللامحدود”، واذا ما قال الصوفي “أنا الله “

بمعنى الاتحاد والذوبان، فهو صادق من حيث شعوره، ومتوهّم أو كاذب اتحد بجانب محدود من جوانب الالوهة الشاملة للوجود كله. 

وماذا كانت نتيجة الانسان الأعلى؟ خسر الانسان الذات العليا، وتغلّبت عليها الذات السفلى، فكان ما كان من حروب ومطامع ومن روايات ونكايات ووشايات. ومن هو الله عند وفيق غريزي، إذا صح هذا السوال؟ الله بالنسبة اليه، حال في كل مكان، ولكن لا يحده مكان أو زمان لأنه هو الزمان الأول. إنه موجود فينا ونحن غافلون عنه. أما الطريق إلى الحقيقة العليا فهي

” يجب أن يفنى الجزء فيكم ليذوب في الكل”. وايضاً “طهّر نفسك من الخطايا والرذائل تبلغ اعتاب الحقيقة السرمدية”، كلام قديم جديد ، ولو كان لي أن اعلن رأيا لقلت: طهروا انفسكم من جراثيم التخلف ، وهي عديدة ولا يمكن حصرها في هذه العجالة، وعندئذ تصيرون شعبا حيا متمدنا، وكما يقول فرنسيس مراش إنه علينا ان نخرج من حالة التوحش والتوغر لنبلغ حالة التمدن الحقيقي. اغلب الظن وفقا للمعطيات السائدة منذ قرن واكثر، أن هذه الحالة مستحيلة او شبه مستحيلة ما معناه كما تقول ساحرات مسرحية ماكبث لشكسبير: “الخير هو الشر والشر هو الخير”.

 

الجسد وشهواته المادية 

ثمة مسألة اخرى ينبغي طرحها في كتاب “المنفرد” لوفيق غريزي وهي أنه شديد التحامل على ما يسميه الجسد وشهواته والمادة، بأن نيتشه يقول بغلوه المعهود: “الجسد هو الروح”، وبالطبع غريزي لا يقبل بهذا الرأي، ولكنه يبالغ كثيرا على طريقة “أما هذا أو ذاك، ولا توسّط في الحالين”. أما جبران فقال كلاما بليغا في فصل الأهواء من كتاب “النبي”، وهو أن الأهواء كالريح تحرك سفينة النفس، فاذا تضاعفت حطّمت هذه السفينة، واذا تلاشت وقف المركب مكانه ولم يتحرك وانتهى إلى ما يشبه العدمية او اليأس. إن اللذات الحلال مشروعة، ولكن الإفراط يحوّلها إلى لذات بهيمية. فمن الرأي الا نعدها قاذورات، اتباعاً للفلسفة السائدة في خريف الفكر اليوناني المنادية بأن المادة قذرة ومهينة وكلها رجاسة. وقديما قال الفيلسوف بسكال: “من اراد ان يصبح ملاكا فقد يجازف بأن يصبح بهيمة”. ومن هذا القبيل اتمنى على الصديق الصدوق وفيق غريزي، الا يبلغ في قوارص الكلام ضد من لا يوافقه الرأي أو يخالفه في الاتجاه الروحي، ولا شك في أنه مصيب، ولكن المسألة هي “دوزنة” الكلام كما يدوزن صوت الراديو ارتفاعاً أو انخفاضا، فالاعتدال كما يقول ارسطو: “فضيلة الفضائل”.

 

تأسيس لقيم جديدة 

وفي كتاب “المنفرد” لوفيق غريزي عشرات، وربما مئات من الأراء المنثورة التي تصلح اساسا مكينا لتأسيس قيم جديدة، بل لتأسيس اوطانا جديدة، وفي هذا المقام يحضرني موقف أغنى اغنياء العالم روتشيلد، الذي قال له احد رجال الصحافة: “لقد سرق جزء كبير من ثروتك من بنك لندن، فماذا يحصل  لو سرقت ثروتك كلها؟”. فهز روتشيلد كتفيه بلا مبالاة وأجاب:

” لن يحصل شيء، كما تتخيل. نحن موجودون منذ قديم الزمان، ما دام البشر يعبدون العجل الذهبي، والعجل الذهبي صنعه بنو إسرائيل حين تأخر موسى في الجبل المقدس، فقالوا: لا بد ان نعبد الها ما، وكان أن جمعوا حلي النساء وصهروها وصنعوا منها عجلا ذهبيا”. والعبرة من ذلك أن البشر عامة، ولا سيما المتخلفة كهذا الشرق التاعس، انما يعبدون المال والزعامة والتنافس الأعمى على الزعامة، ومن بعد حماري ما ينبت حشيش. ولذلك لم يبق حشيش ومات الحمار، ولعل صاحبه سوف يلفظ انفاسه قريبا. لقد اتفقوا على الا يتفقوا، وفكروا الا يفكروا، ونذروا انفسهم للحزب لا للبناء .

قال الشاعر عمر ابو ريشة: “لمن تعصر الروح يا شاعر، اما لضلال المنى آخر؟”. وكما قال جبران في مواكبه: “انما الناس سطور كتبت بماء”.

 لا بأس أن نكتب، ولكن من يقرأ، ومن يفهم إذا قرأ؟ وهل يفهم الأكثرون ما قيل أم أنهم يفهمون العكس؟ ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، كما قال الانجيل، ولكن اغلب الناس اقتصرت ملذاتهم على الخبز وما يرتبط به، خلافا لما قال ابيقور قديما مفرقا بين اللذات العليا واللذات الدنيا، رغم اهمية هذه الأخيرة .

 

هل نخرج من الجحيم؟ 

نعم، لمن تعصر الروح يا وفيق غريزي؟ كنا في برج بابل، بابل الأديان والطوائف والمذاهب وعبادة الزعماء، فأصبحنا اليوم في سادوم وعامورة، فهل نخرج من هذا الجحيم؟ تأمل يا صديقي، شعوب هذه المنطقة كيف تحطمت كلها في زمن متقارب نسبيا. لا يقولن أحد إنه الاجنبي، فالشعوب هي التي تساعد الأجنبي لتدمير نفسها بنفسها. هي النزعة الانتحارية في هذه المنطقة، المقترنة، بالفقر المادي والمعنوي. الم يقولوا العرب جرب؟ فليت شعري كيف اصبحنا؟ لنا عيون ولا ننظر، ولنا اذان ولا نسمع، ولنا عقول ولا نفكر. يا جاهل، يقول الانجيل اخرج الخشبة من عينك، ثم اخرج القذى من عين اخيك، أليست الخشبة اكثر ضررا من القذى؟ ألم يأخذ عرب الخليج التراب والرمال فحولوها إلى ازدهار لا يتصوره الخيال، والى مركبات فضائية؟ ألم نأخذ نحن الذهب ونحوله إلى طين اسود؟ لا يقولن احدا إن الظروف أو الأجنبي، فنحن اهل جاهلية نعبد الأيقونات البشرية، ونحن بسبب أنانياتنا، اصبحنا انتحاريين وأهل نكايات وشماتة واستهزاء… 

وأخيرا، لمن تعصر الروح يا شاعر؟ 

أيها الصديق وفيق غريزي ، ان العقل السليم في الذوق السليم، لا في الجسم السليم. طاب ذوقك يا رفيع المستوى، أيها المتعالي على سفاسف الحياة وترهاتها، واسلم لما يجعل الإنسان انساناً، والعقل عقلا يعمل بكفاءة. 

لمن تعصر الروح يا وفيق غريزي؟….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *