رؤية المعلِّم بطرس البستاني لتاريخ لبنان الوطن

Views: 90

د. مسعود ضاهر*

 

نُشِرَ هذا المقال في دوريّة أفق التي تصدر عن مؤسّسة الفكر العربيّ

 

حلَّل المؤرِّخ الاقتصاديّ شارل عيساوي تجلّيات بناء الدولة العصريّة في الفضاء العربيّ انطلاقاً من بناء الدولة الحديثة في مصر. كان يحميها جيشٌ وطنيٌّ مصريٌّ مدرَّب أفضل تدريب، وسعى لإسقاط السلطنة العثمانيّة بدعْمٍ فرنسيّ ومُبارَكةٍ بريطانيّة قبل أن تنقلب بريطانيا ضدّ أسرة محمّد علي، وتقمع ثورة الجيش المصريّ بقيادة أحمد عرابي، وتُعلن احتلالَها مصر وإدخالها كدولةٍ تابعةٍ في عولمةٍ قسريّة للاستعمار الأوروبيّ. تداخَلَ التاريخُ اللّبنانيّ مع التاريخِ المصريّ المعولَم عسكريّاً وثقافيّاً مع الفرنسيّين واحتلال جيوش إبراهيم باشا لبلاد الشام، واتّخاذ بيروت قاعدةً لإدارته.

أدركتِ النُّخب اللّبنانيّة المُعَوْلَمة بثقافاتٍ ديمقراطيّة أوروبيّة مشبعة بشعارات الثورة الفرنسيّة الكبرى أنّ الصراع الدموي بين العصبيّات الطوائفيّة القاتلة يقود إلى تدمير لبنان. واضْطلَعت تلك النّخب المتنوّرة في بيروت وباقي مُقاطعات بلاد الشام بدَورٍ بارزٍ في نشْرِ الدعوة إلى الانتماء الوطني خارج القَيد الطائفي الذي يغيِّب الانتماء الوطني.

كان المعلّم بطرس البستاني في طليعةِ مَن رَفَعَ شعار لبنان الوطن، لأنّ حبّ الوطن من الإيمان. تلقّى علومه في مدرسة “عين ورقة” في جبل لبنان التي خرَّجت طلّاباً متميّزين بإتقان اللّغتَيْن العربيّة والفرنسيّة. ثمّ تضلَّعَ من اللّغة الإنكليزيّة، وتواصَلَ مع مُرسلين أجانب ومثقّفين يعملون في مجال الترجمة في القنصليّتَيْن البريطانيّة والأميركيّة في بيروت. وأَسهَم في تعليم اللّغة العربيّة لمُرسلين أجانب من الذين فتحوا عدداً من المدارس التي شَرعت تُعلِّم اللّغة العربيّة إلى جانب لغات عالَميّة أخرى، فنالَ لَقَبَ “المعلِّم”.

بعد الأحداث الدامية في بلاد الشام في العام 1860، أَدركَ المُعلِّمُ بطرس البستاني ضرورةَ توليد نخبٍ متنوّرة لتقومَ بدَورٍ بارزٍ في تحديث المُقاطعات اللّبنانيّة المُختلفة. فبادرَ إلى تأسيس “المدرسة الوطنيّة في بيروت” التي استمرَّت من العام 1863 إلى العام 1877.

فما هي رؤيته للبنان الوطن الحضاري؟ وكيف تجرّأ هذا الرائد المتنوِّر، في الفكر والمُمارسة، على استخدامِ مفهوم “لبنان الوطن” في ظلّ سلطنة عثمانيّة كانت تُحارِب الأفكارَ التحرّريّة الوافِدة من أوروبا بعدما أَدركت مخاطرَها على بقاء السلطنة؟

شرَّعت “المدرسةُ الوطنيّة” أبوابها أمام جميع “أبناء الوطن”. كانت تُدرِّس ستَّ لغاتٍ هي: العربيّة، التركيّة، الفرنسيّة، الإنكليزيّة، اليونانيّة، اللّاتينيّة. لكنّه صَرَفَ جلّ اهتمامه في تنشيط تعليم اللّغة العربيّة، لغة الوطن، التي يتوقّف على إتقانها نجاحُ تلاميذه في مختلف حقول المعرفة. ورأى بثاقب نَظره أنّ لبنان الوطن الحرّ في مسيس الحاجة إلى نظامٍ جديد يحتلّ خرّيجو مدرسته مراكز مرموقة في المُجتمع اللّبناني الجديد. واجتهدَ في تنميةِ الشعور بمحبّة الوطن في قلوب تلامذته، وغَرَسَ فيهم مبادئ في مختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وشدَّد على مسؤوليّة نظام المتصرفيّة تجاه المواطنين اللّبنانيّين، وضرورة تعزيز التكامُل بين الوطنيّة والديموقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وفصْل الدّين عن الدولة، ونشْر المحبّة والإلفة لترسيخ وحدة الوطن.

باتَ اللّبنانيّون، داخل الوطن وخارجه، بمثابة الروّاد الحقيقيّين في عالَم الصحافة نظراً لتضلُّعِهم من لغاتٍ أجنبيّة تسهِّل تفاعُلَهم مع ثقافة الغرب وأفكاره التنويريّة. وكانوا في طليعة الرافضين لأنظمة الاستبداد والاستغلال. كما رفضوا المُنازعات الطوائفيّة التي كانت تغذّيها الدولُ الاستعماريّة الأوروبيّة. نَشروا شعارات الحريّة والمُساواة، والإخاء، وفصل الدّين عن الدولة. وترسَّخت دعوتهم للانفصال عن السلطنة العثمانيّة، ودعوتهم الشعوب العربيّة إلى الاستقلال عنها على قاعدة “تنبّهوا واستفيقوا أيّها العرب”. وعملوا على نشر مبادئ الترقّي والتمدُّن والتطوُّر من خلال التربية والتعليم والصحافة، وبناء نهضة عربيّة شاملة على أُسسٍ عقلانيّة.

كانت الترجمةُ من العوامل الأساسيّة التي أدَّت إلى التفاعُل الفكريّ بين لبنان وأوروبا. فاتَّسعت أبوابُ الانفتاح على الثقافتَيْن الفرنسيّة والإنكليزيّة. كانت الفرنسيّة الأكثر انتشاراً ولاقت تشجيعاً من السلطات المحليّة، بداعي توسُّع النفوذ الفرنسي في لبنان. ومنذ أواسط القرن التّاسع عشر، بدأ المُترجمون العرب يتوسّعون في ترجمة الآداب الفرنسيّة والفكر السياسي الفرنسي؛ فتركتْ ثقافةُ الثورة الفرنسيّة أثراً واضحاً في العقل النهضوي اللّبناني بعدما اطَّلع الروّادُ اللّبنانيّون على فلسفة التنوير الفرنسيّة وآدابها.

أَسهمَ البستاني في صقلِ المتنوّرين اللّبنانيّين وتثبيت النّزعة الإنسانيّة في نفوسهم، والمطالبة بحقوق الإنسان، وحريّة المرأة ومساواتها بالرجل. فتأثَّر بمقولاته عددٌ كبير من المثقّفين اللّبنانيّين الذين دَرسوا شعارات الثورة الفرنسيّة. وهذا ما أَسهب في وصفه وتحليله المفكّرُ اللّبنانيُّ رئيف خوري في كتابه “الفكر العربي الحديث.. أثر الثورة الفرنسيّة في نشأته وتطوُّره”. هذا فضلاً عن تزايُد التركيز على دَور المدارس العصريّة، والمطابع الحديثة، والصحافة الحرّة، وتأليف الموسوعات، وإصدار أعمال إبداعيّة وثقافيّة وفنيّة، والترجمة من العربيّة وإليها، والعمل على تحقيق التفاعُل الحضاري بين الثقافة العربيّة والثقافة الغربيّة عبر عَوْلَمةٍ طوعيّة على قاعدة الثقافة الغربيّة دون سائر الثقافات، وبخاصّة الآسيويّة منها كالصينيّة والهنديّة واليابانيّة.

فلبنان بطرس البستاني هو وطن التمدُّن والحضارة والمساواة بعيداً عن الطائفيّة والعشائريّة ومخلّفات “الأعيان في جبل لبنان”. فلبنان الوطن عنده فوق كلّ اعتبار. والانبعاث الوطني، على الرّغم من تعدُّد الطوائف الدينيّة والمذهبيّة، مصدر قوّة في البناء الوطني السليم كي يترقّى وعي الإنسان اللّبناني إلى مصافّ الأبعاد الروحيّة والإنسانيّة للأديان السماويّة. فالدّين الجدير بالانتماء إليه، بحسب البستاني، هو الدّين المُنزَل من عند الله، والإيمان بوحدانيّة الله يقود الإنسانَ إلى الإيمان بوحدة الوطن، وتعدُّديّة الأديان تعدُّديّة فكريّة تُعتبر أساساً لبناء الوطن على أُسسٍ ديموقراطيّة. وبناءُ لبنان الوطن يقوم في الدرجة الأولى على العِلم نقيضاً للأميّة، وعلى المعرفة في مواجهة الجهل، وعلى بناء الشخصيّة الإنسانيّة كي تنتصر الحريّة في مواجهة الاستغلال والعبوديّة، وعلى المساواة بين المرأة والرجل، لأنّ شرائع السماء وهَبتها ما وَهَبَتْه.

تميُّزه عن التنويريّين العرب

وتميَّز البستاني عن باقي دُعاة التنوير العربي في عصره برؤيته الاجتماعيّة، ومُعتقداته في إرساء دعائم ترتقي بها الهيئة الاجتماعيّة اللّبنانيّة إلى مصافّ الدول العصريّة مُتجاوزةً أسباب التخلُّف، وتَمتلك مفاتيح المعرفة العلميّة الحديثة لبناء مجتمعٍ لبنانيٍّ سليم. وأَوْلى اهتماماً خاصّاً بدَور بيروت في التحضير لقيام دولةٍ لبنانيّة عصريّة، كما جسَّدتها دولةُ لبنان الكبير وعاصمتها بيروت. فقد رفضَ سكّان بيروت المُشاركة في النزاعات الطائفيّة في جبل لبنان لأنّهم كانوا من مُحبّي الاستقرار الاجتماعي المولِّد للازدهار الاقتصادي. كانوا يعتمدون في معاشهم على الصناعة والتجارة، ومنهم أصحاب الأملاك. “كان سكّان بيروت من جنسيّاتٍ مختلفة يجمعهم فريقان: أبناء الشرق وأبناء الغرب”. لكنّ اختلافهم في أمر الجنسيّة، والأصل العرقي، لا يفرِّقهم، بل تجمعهم المصالح المُشترَكة، التجاريّة منها والمدنيّة والأدبيّة. كان أكثر سكّان بيروت متمدّنين ويدعمون التمدُّن والترقّي لبناء مُجتمع نشْر العلوم ومراكز الثقافة والمعرفة. ورأى البستاني أنّه على الرّغم من إنشاء المدارس الإرساليّة والدينيّة والوطنيّة فيها، فإنّ احتياجات بيروت العقلانيّة تطلَّبت المزيد من نَشْر المعارف وكثرة عدد المدارس والمطابع التي باتت قاصرة عمّا تتطلّبه روح العصر من الكُتب المناسبة لتوليد الرغبة في قراءة الكُتب والمجلّات العصريّة في مجالَيْ التجارة والصناعة.

تميَّز البستاني بالدقّة العلميّة في تحديد استخدام المصطلحات والمفاهيم السياسيّة الجديدة التي انتشرت في عصره، وأبرزها مفهوم الوطن، والوطنيّة، والمواطن، والتمدُّن، والترقّي وغيرها. فالوطن، بحسب تحديده له، هو منزل إقامة الإنسان ومقرّه، وُلد فيه أم لم يولَد. أمّا التمدُّن فيعني التخلُّق بأخلاق أهل المُدن، والانتقال من حالة الخشونة والبربريّة والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة. وهي كلمة مولّدة يُقابلها اليوم معنى التقدُّم. وفي كتاباته التربويّة والفكريّة تحدّث عن لبنان كمجالٍ جغرافيٍّ واحد غير مُنقسم. ومفهوم الوطنيّة يعني التلازُم بين الأرض والشعب واللّغة والمصلحة المُشتركة. تبلْورت ركائز الوطنيّة لديه في التربية والتعليم على سمتَيْن أساسيّتَيْن:

الأولى: حبّ الوطن لأنّ حبّ الوطن من الإيمان. وكان توقيعه في جريدته “نفير سوريا”، “محبّ الوطن”.

الثانية: تمدُّن الوطن اللّبناني ورقيّه. وأبرز مقولاته النظريّة في هذا المجال: بناء النظام السياسي العادل، وفصل الدّين عن الدولة على خلفيّة علمانيّة مؤمنة بالأديان السماويّة، والحريّة، والمساوة بين جميع المواطنين اللّبنانيّين.

ختاماً، شدَّد على الوحدة الوطنيّة والانتماء إلى الوطن الموحّد وتعزيز بنائه، ووضْع قواعد علميّة لتقدّمه ورفْعه إلى أرقى الدعوات وأشرفها. تَركت كتاباتُه عن أهميّة التواصُل بين الشرق والغرب في القرن التّاسع عشر أثراً بارزاً في نهضة لبنان والمشرق العربي. وبنموّ حركة التفاعُل الثقافي بين اللّبنانيّين، تعزَّزت ركائزُ فكرٍ علماني يحترم جميعَ الأديان، وتزايَدَ حضورُه الفاعل في الثقافة العربيّة. دعا إلى استقلال لبنان، وإلى وحدة العرب على قاعدة نشْر التمدُّن، والحريّة الفكريّة والمساواة بين أبناء الشعب الواحد من دون تمييز في الأديان أو الأعراق. فللبنان الوطن تاريخُه الخاصّ المستمرّ منذ آلاف السنين. ومن المؤرِّخين مَن اعتبرَ تاريخَ لبنان واللّبنانيّين نِتاجَ بيئةٍ تضمّ عصبيّات أو طوائف مُتناحرة. ومنهم مَن أَسهب في مديح جبال لبنان المنيعة بصفتها ملجأً لطوائف متعدّدة. أمّا المعلّم بطرس البستاني، ومَن سارَ على خطاه، فقد دعوا إلى كتابة تاريخ لبنان الوطن على قاعدةِ تفاعُل حضارات متعاقبةٍ على أرض لبنان، والتي دفعتْ مؤرِّخَ الحضارات الكبرى أرنولد توينبي إلى تخصيص مجلّدٍ كاملٍ للحضارة الفينيقيّة الكنعانيّة وإدراج الشعب اللّبناني من ضمن الشعوب التي أَنجزت حضارة متميّزة.

***

*مؤرّخ وباحث لبناني

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *