الإحساس بالعدالة يأتي من انطباعاتنا لا من أفكارنا

Views: 94

وفيق غريزي

استقبل فلاسفة الأخلاق نظرية الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم في القيمة والأخلاق، سواء في عهده أو في ما بعد، استقبالا فيه الكثير من الجفوة وعدم التعاطف، بالرغم من أنه فيلسوف المشاركة الوجدانية، فقد تبرموا منه بحجة أنه لم ينصف الدور الذي يقوم به العقل في الأحكام الأخلاقية والقيمية والسلوك الاخلاقي، وأنه قلل الى حد كبير من اهمية هذا الدور.

 ويرجع فلاسفة الاخلاق في ذلك الى عبارة هيوم الشائعة التي يقول فيها إن: “العقل وحده لا يمكنه، بحال، أن يؤثر في الأفعال، وإنه عبد العواطف ومطيع لها، وإنه اذا كان كذلك، فلا جدوى من زعمنا أن الأخلاق يمكن اكتشافها بالاستدلال العقلي وحده”. ولعلنا لا نجانب الصواب لو قلنا، انه لا يوجد في الفلسفة الحديثة فكرة أسيء فهمها وتقديرها مثل هذه الفكرة التي نسبت الى هيوم، والتي ينظر اليها على أنها فضيحة هيوم وقد يشار اليها، وذلك بعض الاحيان، باًنها مقصلة هيوم.

 

الشيء ومحمولات القيمة 

ليس هناك ما هو اوضح واكثر يقينية من التأكيد على أن امور عيشنا لا علاقة لها بالأفكار، وانما ترتبط بانطباعاتنا وعواطفنا وتتعلق بها، وأنه من دون هذه الانطباعات والعواطف تفقد كل الاشياء ما لها من قيمة بالنسبة إلينا ولا يعود لها، من تأثير علينا، فالإحساس بالعدالة من ثم، لا يتأسس على افكارنا، وانما على انطباعاتنا، ولا يتأسس معنى الخيرية حسب نظرية هيوم على افكارنا انما على انطباعاتنا، ويقول “اما كان من الممكن بالنسبة الى انطباعاتنا وعواطفنا أن تمتزج في ما بينها في وحدة كاملة وتامة، مثلها في ذلك مثل الألوان التي يمكنها أن تمتزج في ما بينها، بحيث يفقد كل منها ذاتيته، فان التعريف بإحصاء الأجزاء والعناصر وتعدادها هو تعريف لا يمكن بحث تطبيقه على البحث الخلقي، ومن ثم التصورات الأخلاقية الاصلية والمنفردة.

 ونرى أن هيوم قد استخدم في البحث الأخلاقي منهجا بديلا في التحليل والتعريف، ومن ثم، فان آلية التعريف والتحليل في البحث الخلقي ليست هي احصاء البسائط كما في النظرية التأليفية، وانما تتلخص هذه الآلية في تعيين الكيفيات التي تميز تصورات ما من تصوراتنا الأخلاقية عن كل التصورات الأخرى. والحقيقة الواضحة أن نظرية التأليف أو التركيب في التعريف لا تنطبق بحال على التصورات البسيطة، ولا تتوافق معها. 

لم يتخلص هيوم، كما جعل جورج مور وانصاره في ما بعد، النتيجة التي تقول إن التصورات البسيطة لا تقبل من ثم التعريف. وبعبارة اخرى كما يقول بعض الذين تناولوا هيوم للدراسة والتحليل إن: “هيوم لم يأخذ بوجهة النظر التي تقول بإن المعنى الهام والوحيد للتعريف بالبحث الأخلاقي، هو المعنى الذي تكون فيه مهمة التعريف تقرير ما هي الأجزاء التي تؤلف كلا معينا، وهي الفكرة التي روّج لها الحدسيون واللاتعريفيون ليبرروا فكرتهم عن عدم امكانية تحليل أو تعريف الكيفيات الأخلاقية، وكيف، لا يمكن ادراكها الا عن طريق الحدس”. 

 

الذاتية الشخصية والإدراك

يشير هيوم في حديثه عن الذاتية الشخصية إلى وجهة نظره بقوله: “إنني عندما ادلف بحماسة، وبتعاطف، إلى ما اسميه نفسي أو ذاتي، فإنني اصطدم دوما ببعض الإدراكات الجزءيّة من قبيل الحرارة والبرودة، أو الضوء أو الظل، الحب أو الكراهية”، فليست الذاتية شيئا سوى حشد أو تجمع من الإدراكات المختلفة والمتباينة التي يتبع بعضها البعض الآخر في سرعة لا يتصورها العقل، بالإضافة إلى أن هذه الإدراكات تعتورها الحركة والسيلان الدائمان. ويتضح لنا أن تلك الذاتية التي نعزوها إلى الذهن الإنساني، مهما كان الكمال الذي يمكن أن نتصورها عليه أو نخلعه عليها، ليست بحال قادرة على نسج الإدراكات المختلفة والمتعددة وسبكها في ادراك واحد بعينه، وأن تجعل هذا الإدراكات تفقد سماتها وخواصها الخاصة بالتمييز والاختلاف والتنوع، وهي السمات الحيوية والضرورية لمثل هذه الإدراكات. ومن الصواب ايضا أن نؤكد أن كل ادراك متميز مما يدخل في تأليف الذهن وتكوينه، انما هو وجود متميز ومختلف، ويمكن تمييزه وعزله عن غيره من الإدراكات.

 إن فكرتنا عن انفسنا تضفي درجة معقولة من الحيوية على فكرة أي موضوع آخر تتعلق به، فالاستعداد العظيم الذي لدى الناس للزهو انما يمكن اعتباره ظاهرة مماثلة اخرى إضافية، فاذا كان الموضوع المباشر للزهو والضعة هو النفس أو الشخص عينه الذي يكون على وعي عميق وحميم وصادق بأفكاره وعواطفه، فان موضوع الحب والكراهية شخص آخر، ولا يكون، من ثم، على وعي بافكاره وافعاله وعواطفه، وهذا واضح من الخبرة. 

ويؤكد الباحث محمد محمد مدين في كتابه:”فلسفة ديفيد هيوم الأخلاقية”: “اننا نستطيع 

أن نقول أنه على الرغم من أن النفس قد تكون بالفعل، وكما يتصورها هيوم، حصيلة أو تجميع وحشد من إلادراكات المتميزة، فان ما نعنيه بالنفس ونتعرف عليه على نحو تصوري ولغوي هو شيء جد متميز عن هذه الجزءيات الي يمكن احصاؤها وحصرها. ثم، يمكننا القول إنه مهما كانت قوانين التركيب والتأليف الذي تنطبق على نحو صحيح على تكوين النفس، فان هذه القوانين تختلف كليا عن تلك القوانين الآلية المكانيكية التي تعتمد على نظرية التركيب والتأليف.

 

نظرية هيوم المعرفية والظواهر الأخلاقية

يمكننا أن نؤكد أن المنهجية التي تقوم عليها نظرية هيوم المعرفية لا تنطبق بحال على تحليل هيوم للظواهر الأخلاقية، ونعني بهذه المنهجية تأكيده على أن كل فكرة هي صورة طبق الأصل للانطباع الذي تناظره وتتطابق معه، وان المعيار الذي نميز به بين الأفكار والانطباعات هو فحسب درجة الحيوية والنضارة. إن كل الأفكار المجردة ليست في الحقيقة شيئا سوى افكار خاصة ولكن منظورا اليها من وجهة نظر معينة.

 وقد واجه ديفيد هيوم مشكلة موازية لهذه المشكلة، ولكن هذه المرة في مجال الإدراك الخلقي والتي تواجهنا هنا هي في تحديد ما إذا كان لفكرة الفضيلة انطباع متوافق معها ام لا؟. وعلى نحو عام، يرى محمد مدين انه يمكننا تلخيص موقف هيوم في القضية الآتية: “أن الخلافات تعتمد على عواطفنا وتتأسس ًعليها. واذا كان الحال هكذا، فان بإمكاننا أن نفترض أن اختبار صحة فكرة اخلاقية ما، ومن ثم إطلاق حكم اخلاقي ما، سوف يتضمن القيام بمقارنة هذه الفكرة أو الحكم بالانطباع الخلقي المتوافق والمناظر له”. 

ولكن هيوم أدرك أنه إذا كان هو المعيار الوحيد للحكم على صحة الفكرة أو الحكم الاخلاقي، فان الاخلاق ستصبح من ثم ذاتية على نحو خالص، فالعاطفة وجود اصيل، أو أن اردنا، أن العاطفة صيغة الوجود، وهي لا تتضمن اي كيفية أو خاصية تمثيلية، ويكون من شأنها جعل نسخة لأي وجود أو صبغة اخرى، وهنا نتساءل لماذا يتصف فعل ما أو خلق ما بأنه افضل أو مرذول؟

يجيب هيوم، انه يتصف بذلك لأن معاينته “تسبب لنا متعة وحبورًا أو ضيقا ونفورًا من نوع خاص، فأن نقدّم تقريرا أو تفسيرًا للحبور أو النفور، أو للمتعة والضيق، انما يعني اننا نفسر وعلى نحو كاف، الفضيلة أو الرذيلة. فان يكن لدينا احساس بالفضيلة، لا يعني شيئا سوى الشعور بالرضى على نحو معين من تأملنا لحق ما، وهذا الاحساس أو الشعور نفسه يؤسس ثنائنا وإعجابنا، ولا نمضي في ذلك إلى ما هو ابعد من هذا، ولا نبحث في علة الاشباع أو الإرضاء”.

وهذا هو النقد الذي غالبا ما يوجّه إلى موقف هيوم الأخلاقي، حيث يزعم اصحاب هذا النقد أن هيوم يعتقد أن الاحكام الأخلاقية هي مما لا يوصف بالصدق أو الكذب، وهم يعتمدون في نقدهم، على تصريح هيوم أنه من المستحيل لذلك، أن توصف العواطف والأفعال بانها صادقة أو كاذبة.

العلوم الأخلاقية والطبيعة 

لا تقدم النظرية الأخلاقية خبرتنا فحسب، فهي لا تتعامل مع العالم باعتباره معطى جاهزا لخبرتنا به، وانما تزودنا بمعنى وقيمة هذه الخبرة بالإضافة إلى الاتجاه الذي نتبناه نحو هذه الخبرة. فالمعرفة الأخلاقية هنا ينظر اليها بتعبير الفيلسوف جون ديوي على انها منظومة من المعاني المنتظمة التي تصبح بفضلها، لإحداث الحاضر بالنسبة الينا، معنى ودلالة وقيمة. فالأخلاق ليست نسقا مجردا وانما جزء متمم للحياة، ومن ثم فالنظرية الأخلاقية امتداد لما هو متضمن في كل الاخلاق التاملية. 

ويوًكد الموًلف مدين أنه “يمكن للمرء أن يعزل في ذهنه تصور بقعة حمراء، التي هي ادراك مباشر، أو اي مفهوم مركب، ويحاول تحليله بمنهج الحزء للكل، “.ثم يسأل هيوم، من ثم باستخدام هذاً السوال المفتوح عما إذا كان التعريف المقترح قد نجح أو لم ينجح في تعيين التصور موضوع البحث وتحديده على نحو دقيق وشامل ؛ والمقصود بنجاح التحليل هنا هو أن يكون هناك تكافؤ بين الكل، وهو هنا المحلل والمحلل اليه، وهو هنا العناصر أو الاجزاء أو الذرات التي يتألف منها الكل. 

ولكن لو كان المرء ينظر في تصور من التصورات، تصورات القيمة مثل تصور الخيرية أو تصور العدالة، وكأن ينظر فيه ليس باعتباره ادراكا جزءيا مباشرا وانما باعتباره مركبا أو منظومة من المعاني تكتسب به الواقع والاحداث الحاضرة، في نظرنا، المعنى والدلالة 

عندئذ لن يكون هناك مجال للسؤال عن امكانية استخدام حجة مور السلبية، فالخيرية ليست بحال ذرة أو جزئي ذهني ولا هي مما يمكن تعريفه تعريفا جامعا مانعا. بالإضافة إلى أن فلسفة الاخلاق ليست في الاساس معنية بتقديم تعريفات جامعة مانعة للتصورات الأخلاقية المرهونة بمكان وزمان بعينهما قدر اهتمامها بتعريف عملية السبك والحبك الخاصة بهذه التصورات الأخلاقية، وهي عملية مستمرة ومتصلة دوما. وهكذا يتأكد لنا انه إذا تم التسليم بالمنهج الذي يتبعه هيوم تعبيرا صادقا، فان اتهام هيوم برد الاخلاق إلى الخبرة المباشرة، وتورطه في المعالطة الطبيعية، يعد اتهاما له ما يبرره، وهذا إذا سلمنا بان هناك مثل هذه المغالطة من حيث المبدأ.

 

هدف نظرية القيمة

إذا اعتبرنا مع الحدسيين أن الحكم التأملي أو الحدس، هو المصدر الوحيد والملائم للحكمة الأخلاقية فسيكون على المرء عندئذ أن يبحث في تعريف للخيرية، أما إذا اتفق مع هيوم والطبيعيين من فلاسفة الاخلاق، على أن العدالة فضيلة يتم استحسانها، ليس لأي سبب سوى أنها تتجه نحو الخير العام، وأنه لما كانت الأخلاق تتعلق بالإحساس والشعور بأكثر ما تتعلق بالحكم والمنطق ؛ فالأخلاق شيء نستشعره وننفعل به اكثر من كونها موضوعا للحكم والمنطق على حد رأي هيوم، الذي يشير إلى أن الاخلاق تهتم اساسا وعلى نحو كلي بالعاطفة، وان العقل أو الحكم لا يلعب باعتباره كذلك دورا حيويا في المشكلات الأخلاقية. ولا جدال في حسم طبيعة العلاقة بين العقل والعاطفة، ودور كل منهما في السلوك هي من المشكلات الصعبة التي تواجه الباحث في نظرية هيوم الأخلاقية. يقول الباحث: “لأن هيوم نفسه لم يصل بشان هذه العلاقة إلى موقف واضح ومحدد، وربما كان الوصول إلى موقف محدد وذلك في ما يتعلق بالعلاقة بين العقل والعاطفة، لا يعبر في الحقيقة عن امكانية حقيقية يمكن تحقيقها وتجسيدها. ولكن المسائل المتصلة بالعدالة، كثيرا ما يكون الأمر بحاجة ماسة إلى عقل أوحكم غاية في الدقة، لنقرر به القرار الصائب وسط امثال هذه الشكوك الشائكة التي تنشأ عن غموض المنافع أو تضاربها. فالعقل يهدينا السبيل في مسالك السلوك المختلف “. 

وأما الشعور الإنساني، فيتميز بينها ليفصل منها ما هو نافع ومفيد …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *