سجلوا عندكم

عن إلهام كلّاب يوم تكريمها… غزَلتْ أحلامها بخيوط الشمس وبفرح الحياة

Views: 221

د. غالب غانم

          كيف أمسكتُم بها اليوم وهي لا تطأ الثرى إلّا بين الحلم والحلم، وبين التحليقِ والتحليق!.

         ذاتَ تكريمٍ سابق في الحركة الثقافية انطلياس توجّهت إلى أصحاب المبادرة قائلةً: “يا أحبّائي، لقد أمسكتم بي أخيرًا… كنتُ أختبئُ منكم وراء شجرات التأجيل والوعد، فوضعتموني -في هذه الهنيهة- أمام نفسي…”

       طوبى لكم أيّها المحتفون بها، خلَلَ هذا المؤتمر الأدبي الراقي، أتحتُم لنا أن نقبضَ على النّبلةِ الحرّةِ الدّائمةِ الصّعود، و”حائكة الدانتيل” في الرفقةِ المثرية، والأدبِ الفتّان، وطقوسِ التجاوزِ والانعتاق. تُحاول الاختباء فيخونُها أقربُ المقرّبين، عنيتُ اسمها الذي طيّب الرُبى، وشاع في الداني والقصيّ من الأمكنة، ومن مجالس الإبداع.

 

***

     تقول، في الكلمة التي ختمت بها الحفاوة السابقة الذكر، ما نصُّهُ أو فحواه: إنّ صورة “المرأة حائكة الدانتيل” للفنّان “فرمير” Vermeer سحرتها بنظرتها المخبّأة في انحناءة الرأس الخفِر. وإنّها بعد مواكبتها أصنافًا وأنساقًا من الرسوم والفنون والحضارات، باتت تستعيدُها بالحنين كلّ الحنين، حتى صارت على يقين، بعد مُناضلةٍ في الدنيا ورفعِ رايات، أنّه بمستطاع النّساء أن ينسجنَ العالم، برهافةٍ وإتقان، كما ينسجن الدانتيل في المبسّط من المواقف أو المعقّد من المهمّات (عن كلمة لها بعنوان: حائكة الدانتيل، ألقتها يوم تكريمها في الحركة الثقافية انطلياس، منشورة في: إلهام كلّاب، أغصان، وجذور، ص 115).

       ما مرّةً كانت الأنوالُ الحائكة وأنسجتُها الخضيبةُ الزاهية وليدةَ استعلاءٍ وشمخةِ أنف. ما مرّةً كان القبضُ على ناصية الحق وليدَ زهوٍ وخيلاء. انحناءةُ الرأسِ الخَفِر قد تمكّنك من شقّ دروبٍ وعِرة، وتشبيكِ العقدة في سجّادة شرقيّة، وتقويمِ اعوجاج، وغَزلِ أيّامك الآتيات بخيوط الشمس. إلهام كلّاب، أليفة الضّفاف العمشيتيّة والجبيليّة الرحراحة، والمتطوّعةُ الافتراضيّة- في ربيعها الثامن- للذهاب إلى بحيرة تشاد تخفيفًا

 لضنى أهلها، واللامحةُ في ثنايا العشب الأخضر زهورًا بسيطة لا يراها غيرها، والشاعرةُ بالانتماء إلى كنيسة الجار ما يوحنّا في جبيل، وإلى معبدٍ هندوسيّ في كمبوديا، وإلى مسجدٍ، وإلى كلّ “الأديان والحضارات، في لحظةٍ عجائبيّة واحدة…” إلهام كلّاب… بانحناءةٍ خَفِرة لم يَفُتها التطلّع إلى العُلى، غزلتْ أيّامها وأحلامها بخيوط الشمس، وبفرحِ الحياة.

 

***

    عندما أذكرُ رفقتها المثرية، أعني نفسي، أكيدًا، ولكنّي لا أدّعي احتكار هذه المسرّة. تلاقى وجهانا في كنف كليّة الآداب من الجامعة اللبنانية -مع تفاوتٍ تناقصي في سُلّم العمر هو لصالح إلهام دونما شكّ- فاستبان لي، في غُرّة التعارف، أنّني أمام حضورٍ مُختلف. حضورٌ مختلفٌ في الشغف بالحياة التي نظرت إليها، وهي بَعدُ في الغضاضة، كحركةٍ ومشروع لا كاستكانةٍ وصُدفة. وحضورٌ مختلفٌ في الإفصاح والإلماح، وفي مؤاخاة الرّفض والقبول والغليان والسكون في صيغةٍ فريدة ذكيّة تؤالف ما بين الجذور والأغصان… وما بين تقدمة المكتسَب، والنّسج الذاتيّ الخلّاق.

    وعلى مقام الحضور، لا ننسيّنَّ أنّ إلهام حلّت في ظاهر الجامعة وكأنّها-كما تصف نبتةً صديقةً في عمشيت- “زهرةٌ ممشوقة، نبيذيّةُ القلب، تتخايل جمالًا أمام نافذة البيت في ظهيرةِ الصيف.”

   لا أدّعي احتكار هذه المسرّة، لأنّي ما خُصصتُ وحدي برفقتها المثرية. إخالُ أنّه ما من أحدٍ مرّ بها، أو عرفها، أو نَعِم بعشرتها، إلّا وتركتْ في ذاكرتِهِ أثرًا من آثار الاختلاف والغنى الإنساني ورحابات العقلِ والضوء.

 

***

    وعندما أذكر أدبها الفتّان أُقصي أيّ توشيةٍ طارئة وأيَّ حذلقةٍ لفظيّة أو فكريّة. تنسج كلماتها بغزّارةٍ من غياض عمشيت، أو بصنّارتي الجدّة، أو بخيوط أنوالٍ معتّقة… ولكنْ، بحبرٍ ربيعي، وفكرٍ طلق، وحداثةٍ لا أضاليلَ فيها ولا تيهان. الجميلُ لديها عميق. والمندّى أصيل. والفوّاح يحملك إلى منابت العَرار. أو، كما جاء في قصيدة بعنوان “القديم والجديدِ” لأمين نخله:

     البلبلُ الطّرِبُ النّظيمِ        وافى وغرّد في الكرومِ

     هو لابسُ الريشِ الجديد     وصاحبُ الشّدو القديم.

     حين تقرأ من صناعتها أو من هلّ ديمها، لن تكون بحاجةٍ إلى تَرجُمانَ، بل إلى ذائقة فنيّة عالية. ولن تكون بحاجةٍ إلى منجّم، بل إلى حدسٍ بصريّ يمكّنك من منادمةِ النّجوم.

    عالجت الأقرب فساحت عبره إلى الأبعد. كتبتْ “تاريخ الأشياء اليوميّة”: كالساعة، والخبز، والمفتاح، وفنجان القهوة، والقلم… فتلمّستها بقشعريرة الأنامل وبنداء الروح للروح. 

    وكانت في صغرها، بين الحين والحين، تمسكُ بحصاةٍ وترمي بها في البحر… “رسائل مجهولة- كما تقول- لا أعرفُ لمن…”

   أليسَ أنّها مُذ ذاك، هيّأت نفسها للانضمام إلى سحر الأدب، قبلَ أن تغطّ ريشةً في دواة!.

 

***

   وفي طقوسِ التجاوز والانعتاق- وهي الثالثةُ التي اخترتها من جملة مزاياها، يُخيّلُ إليّ أنّها غرّدت خارجَ السّرب وخارجَ المتواضَع عليه، منذ قبضات الزمن الأوّل.

   كان السّاهران على الوكر يعملان على أن يجعلا من أولادهما أرواحًا حرّة. وصدرت عن إلهام بداوات، تلتها إنجازات، تُحاكي هذه الغاية… تتلو رسائل مار بولس آن كان هذا الطقس محظورًا على النّساء. تتدرّب على المعاندة. تتمرّد على النمطيّة. تذهب إلى الآخر في الحوار الصادق، وفي الزواج، حين كان أُوار الطائفيّة متأجّجًا. وتقتحم ميادين وميادين لا تُحصى في هذه الإلتفاتةِ العَجلى.

    وتقول، إبّانَ الاحتفاء السابق إيّاه: “أذكر أنّهم كانوا يحذّروننا من اجتياز الطريق، وقضيتُ حياتي أجتاز طرقًا ممنوعة”. بالطرق الممنوعة نجانبُ الراكد والخانع، ونحوّلُ “القفرَ أنهرًا وجنائن”.

 

***

    على هذه الغِرار كانت إلهام. وعلى ألفِ غِرارٍ أخرى: في مبادراتها، وأعمالها، ومسؤوليّاتها، وعلائقها، وأسفارها، وكتاباتها، وثقافاتها، وعطاءاتها، وثوبِ فرحها حتى ولو كانت ترتديه “في كاتدرائيّة مهدّمة” كما تقول. ولكنّك ما إن تنظر إليها الآن، حتى تميل إلى أن تُطبّق عليها ما قالته في والدتها التي شبّهتها بإلاهة هنديّة تملك عشرة أذرع لفرط ما بذلتهُ في سبيل تنشئة عائلتها الكبيرة: “تضحك كثيرًا لامتلاكها روحًا نقديّةً فَكِهة تجعلُ من يراها يعتقد أنّها في إجازة متواصلة.”

   تلك هي إلهام… تضحكُ كثيرًا، وتُبدعُ كثيرًا، وتُلهمُ كثيرات. بدأت تشقُّ دروبًا وترودُ آفاقًا فانتهتْ رائدةً بين رائدات… سبحانَ من أعطى!.

 

*** 

* ألقيت بمناسبة تكريم الدكتورة إلهام كلّاب البساط في مركز الصفدي-طرابلس، السبت 8/ 6/ 2024

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *