د. جوزف صايغ… يوميَّات بلا أَيَّام

Views: 130

“يوميات بلا أيام “كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول الكتاب على حلقات مستهلة ذلك بنشر المقدمة.

د. جوزف صايغ

كلُّ ما يُكْتب نثراً عرضةٌ للاعتراض، للأخذ والردّ. مُعرَّضٌ، أقلُّه، لمجرّد الرأي. هذا في طبيعة القول، وخطر الإفهام والفَهْم. نفهم على خلفيّة من سوء الفَهْم. سوء فهم ثقافي يمنح القارئ حقّ الشكّ، ونقْلِ النصّ إلى، وعلى، مسؤوليته: يوافق، يرفض… من وجهة نظره طبعاً. أخيراً لن يفهم إلاّ فهمَه: ما يُشبهه. القارئ يقرأ نفسه في النهاية.

مع ذلك، الكاتب يأخذ الكلمة دون استئذان. لا أحد يُعطيه إيّاها. بوقاحة أحياناً يأخذها ليقول. سواء وافقه الناس أم لا. صدَّقوه أم كذَّبوه. مدحوه أم شتموه. غير مُهمّ. المهمّ هو الكلمة التي تقول. ماذا تقول الكلمة؟ الكلمة تقول ما هو في بُنيتها عن شيءٍ نتصوَّر أنَّ في بنيته ما تقوله عنه الكلمة.

وإذا كانت كينونة المعنيّ غير كينونة العاني،فماذا يؤكّد أنّ ذاك السَّـراب المتلالي وراء الكلمة هو حقّاً قائم في المعنى المقصود بالكلمة؟([1])

‏‏في هذا الكتاب، أخشى أن تكون الكلمة على هذا النحو: مغامرة بوسيلة سيّئة لبلوغ ما لا يُبلَغ. كلمة أُصيبت من ذاتها بدُوار، فراحت تُداور معاني عابرةً في دُوارها على نفسها، وعلى مواضيع متفرّقة، لا علائق ما بينها. أفكار تواردت في صدد أحداث متباينة، مُتنائية، متفاوتة الأهمية، بتأثير من انفعالات عابرة، سريعة الزوال. كتابٌ، بالتالي، فوضويٌّ يعكس فوضايَ، مِزاجيّته من مزاجيّةٍ خاصّة لا تستكين، بَرَتْها الأيام، واستهلكها التأمل. كتاب أهوج فيه يُصارع الفكر جموحَ أشباح وحقائق، وينتهي إلى صفائية محضة، ثاقبة، شبه خارقة، وإلى “دقائق” تتحكّم بالفكر قدر ما يتحكَّم الفكرُ بها. كتاب عانَدَ بقدر ما عاندتُ حتى لظننته يأبى إلاَّ أن يكتب نفسه بنفسه، على هواه. شعرت معه بأن للنصوص كياناً خاصاً؛ مزاجيّة مستقلّة عن إرادة كاتبها! كأنما ثمّة نصوص يشوقها أن تعصى على الانصياع للصياغة، ومفارقاتٌ تكاد لا تكون إلى ما نريدها إليه. (https://fleshbot.com) كأنما النصوص تضمر أن تقود المؤلِّف إلى حيث تشاء – أو لا تشاء – لا إلى حيث يشاء هو. النصّ يكشف للإدراك ما يريد كأنما الكاتب مجرّد أداة. كأنّ الكتاب يساهم في إنشاء نفسه بنسبةٍ غامضة يعسر تقديرها.

بدايةً، حِرْتُ في عنوانٍ يلائم هذا “الخليط”. خليطٌ بمعنى Melting pot. فَعَرَضَتْ كلمة “كيفما” – أي كيفما اتّفق. اخترت أخيراً كلمة “أشياء” لشمولها وغموضها. ثُمَّ، أثناء القراءة، عَرَضَ: “هشيم الأيام”. وكان يمكن أن يكون “أطلال الأيام”…

ولعلّه، نهايةً، في خلاصته، كتاب سيرة. أو يوميّات فكريّة فقدَتْ أيَّامَها. أحداث حياتي، في خلاصتها، هي أحداث فكرية. حياتي كلّها جَرَتْ في رأسي. لم يرتبط اسمي بأحداث من الأهمية بحيث تبرِّر سيرةً. أحداث حياتي هي، حصراً، تأمُّل: تمثيلية تجري أحداثها على مسرح فكري.

تأمُّلٌ في التأمُّل. إستبطان وحُمم. نظرة إستتيكية إلى الكلِّ في الجزء. الواقع، أيّة حياة، لأيٍّ كان من الناس، هي جديرة بأن تكون سيرةً تُقرأ، شرط أن تُؤتى الأسلوب. عندها تصبح أدباً يَدرس، إنسانيًّا، إنساناً. العاديُّ، والمتفوّق، من الناس سيّان في هذا الاستشراف. عبقريَّة الصياغة، والكشف الإنساني – الماهيّة – هي المهمّة.

الآراء التي أُوردها شخصيّةٌ، لا تُلزم أحداً بالطبع، ولستُ لأدّعي لها العِصْمة. أفكار حُرَّة لقارئ حرّ.

تبقى تلك الجوّانيّة المعروضة في السطور.

كلُّ كتابة ينقصها الخَفَر.

في الكلمات حرارة تتنفّس، تحتدم أو تفتر في الجُمل، أو تطفر كما النوافير الجوفية من الأعماق، يحاول الحِبْر سَبْرها، فيثابر، ويدأب، ويجهد، غير واثق من البلوغ، أو من أنه قال ما يريد أن يقول على النحو الذي يريد.

وهل مِنْ قائل يبلغ تمام القول؟

هل من قول يقول كُليانية القول؟

‏*‏

تبقى المخاطرة – والخطر – في فعل الكتابة بالذات: كيف نُداني المعنى بغير المجازفة إلى أقصاه؟ إلى ما بعده؟ إلى أبْعده؟

إلى اللاّعاني… ويعني؟

****

([1]) يروي ڤرنر هايزنبرك، الفيزيائيُّ الألمانيُّ الشهير، في سيرته “الجُزء والكُلّ” La Partie et le Tout، زيارةً قام بها، سنة 1933، إلى أستاذه الفيزيائيِّالكبير NielsBohr في الدانمارك. يقول: “ذات مساء كان بور يَجْلي الصحون بعد العشاء فلاحظ أنّ عملية جَلْي الصحون تُشبه اللُّغة. فقال: نغسل الصحون بماء قذر، نُجفّفها بخرقة قذرة، مع ذلك نتوصّل إلى صحن نظيف”.

يعلِّق الروائيّ جيروم فرّاري، في كتابه عن هايزنبرغ، الذي عنوانه “المبدأ” Le Principe، على هذه الحادثة بقوله: “إن اللُّغة هي أداة سيئة mal foutue علينا استخدامها لبلوغ غاية مستحيلة”.ويضيف: “إنها صورة بليغة عمّا هو الأدب”.

(*) مقدمة كتاب “يوميات بلا أيام” الصادر حديثُا عن دار نلسن 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *