يَدُكِ

Views: 72

د. جان توما

مدّي يَدَكِ أمّي ، كالعادة، وصحّحي وضع الغطاء عليّ اتقاء من قرصة نسيم. هكذا نصبح، وإن اقتحمتنا السنون برتابتها ، نوّامين على سطوح الزمن، كما كنا في طفولتنا نلتحف السماء غطاء تحت عريشة ذلك البيت القرويّ في الدسكرة الوضيعة، حيث نبدأ بعدّ حبّات العنقود المتدلّي، ونتابع نجمات كرمة السماء، حتى تأخذنا الأحلام بهناءة بعيدًا عن أيامنا المُثقلة بألف همّ، إلى تلك الأيام الخوالي حيث الهمّ كان تأمين كرجة المي من النبع إلى السواقي على حفافي عتبات البيوت الفرادى، المتكئة حجارتها إلى سنديانة أو شجرة حور، عبورًا إلى البساتين القريبة العطشى كوجوهنا إلى رشّة ماء بعد ألف قفزة من جلّ إلى آخر.

مدّي يَدَكِ أمي إلى يد أبي، فأشعر أنّ كتفيَّ قويتان فهما من بركة الرضا. زيدي أمّي خميرة عجين أيامي طراوة. تعبت يدايّ من البحث عن كتفك ليصير رأسي إليها ملقى راحة، كما شقيتُ من البحث عن الشرايين النافرة في يديّ أبي، وقد رَعَتْ عائلات نَمَت نعمة فوق نعمة. تغيّر العالم يا أمّي وأبي، صارت البيوت واسعة ولا تتسع لعائلة صغيرة، فيما كان مربّع بيتنا القرميديّ الضيّق يسع الجدّ والجدّة والعمّة والوالدَين والأطفال.

مدّي يَدَكِ أمّي، تناولي صنارتيك، أعيدي حياكة العالم من جديد. أرفع ساعديّ ، أُدخلهما كبكوب صوف، تسحبين الخيط، يدور في كفيك ليصير كرّة ، لكأنّ العالم يبدأ وليدًا بين أناملك، ولا يستعيد جماده إلّا حين تضعيه في سلّة الصوف بعيدًا عن دفء راحتيك ورقّتهما كلّما لَمَسْتِ جبيني.

مدّي يَدَكِ أمّي إلى صوف العالم، وجدّدي قماشاته كي لا يدخل برد التفاهات وصقيع المتاهات.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *