سجلوا عندكم

قراءة في قصيدة “أنا الضّوء” لـ محمّد حبلص 

Views: 227

ابتسام غنيمه

بين أنا الفرد المجتمعيّ وأنا الشّاعر علاقة وثيقة تشدّ عرى الحبلصيّ أفقيًّا بمجتمعه وعموديًّا بشعره. نعم، عموديًّا… ذلك أنّ الشّعرَ ارتقاء، فيه تسمو الكلمة من معناها الاصطلاحيّ لتعانق معاني يلقّحها الخيال المبدع فتولَد من رحم الأبجديّة شعلة من نار تُلهب المشاعر، وتضيء ظلمات عصر يتخبّط خبطَ عشواء في مجاهل الادّعاء والتّزلّف والتّصنّع.

“أنا الضّوء”…

كم من الدّلالات يحتضنها هذا التّعبير. إنّه نور يُهدي، ونارٌ تحرق وتطهّر… وقد اختاره الشّاعر د. محمّد حبلص ليكون الصّفة الملازمة لشخصه في قصيدته هذه. فالضّوء ندركه بحاسّة البصر، لكن مَن يستطيع لَمسَه؟ مَن يستطيع التقاطَه؟ 

في قصيدته هذه، حيث في كلّ بيت لوحة تنطق وكلمة تحفر، خطّت حروفُ د. محمّد حبلص منقبةً من مناقبه، كاشفة النّقاب عن شخصيّة عانت فما غالت في إماطة اللّثام عن نماذج غادرة خائنة من النّاس الذين نصادفهم في حياتنا، ما يجعله، بفعل خبرته وحكمته، قادرًا على التّمييز بين أهل الخير وأهل الشّرّ، فيعرض مبتعدًا عن الفئة الثّانية، لأنّه كما أشار في المطلع، محبٌّ لا يخون الخبز والملح. لذلك، يبتعد عن أهل الأذى “بحكمة ذي لبّ وشيمة قائد”.

ثمّ تأتي الأنا وتتمركز لتبيّن لنا شفافيّته وقدرته على التّفلّت من قبضة المكائد التي تتربّص به، كما الضّوء الذي لا يمكن إدراكه والتقاطه بقبضة اليد.

وتجود الكلمات وتغزر التّعابير، وتضجّ القصيدة عنيفة في مضامينها، سِمتها العنفوان والوفاء.

إنّه الضّوء الذي يتسلّل من أنامل كلّ شرّ محدق به. سيفُه أبياتٌ قُدّت من فصاحة العربيّة، لا يقوى عليها بتّار.

ولأنّه كريم النّفس عزيزها، أصيل في تربته العربيّة، يأتي فعل “الإنكار” ليبيّن ملكته الشّعريّة: “وأنكر بين النّاس أصلَ قصيدتي/ إذا لم تكن سلطانة في القصائد”.

هذا الإنكار لا يعني أنّه قد يكتب الرّكيك الضّعيف من القصائد، لكنّه يأتي للتّأكيد على أنّ قصيدته تتجلّى وتتمايل بأبّهة، “سلطانة” بين القصائد.

كما يسلّط الشّاعر الضّوء على صفة أخرى يتميّز بها الشّاعر الحقّ، وهي إجادة الإلقاء وسلاسته، كما البلبل على أيكة يطربنا بألحان تنساب من حنجرة شجيّة صافية.

وفي إطار كلامه على الشّعر، نراه يندّد بما نقرأ من كلمات يخطّها أناس يمسكون بأطراف ثوب الشّعر ويتعثّرون بأذياله… فإذا بهم لا يدركون درب الخلود، ذلك أنّ الشّنعاء لا تُنجب “حسن الخرائد”. والشّعر أنواع، كما الجنى، بعضه مرّ المذاق، بعضه مزّ، وبعضه شهيّ لذيذ كمذاق هذه الأبيات…

وتختم الأنا الحبلصيّة أبياتها لتشيد مجدّدًا بمناقب الشّاعر/ الإنسان الشّجاع، الذي لا يعجزه أمر، والذي خلق يحمل رسالة نبيلة اسمها “الحقّ”، يلبّي نداءه متى دعاه، ويبذل نفسه في سبيله.

د. حبلص، أيّها المتجذّر في الشّعر، المنتشي منه حتّى الثّمالة! إنّك، والحقّ يُقال، مشعال ديوجين في ظلمة عصر يتخبّط بضلاله! 

إنّك الضّوء الآتي من حجب التّاريخ لتعيد مجدًا إلى فنّ ينازع ويرفع يده مستنجدًا، علّ الصّمصام في يدك يفتك بالشّنعاء وولدانها، وتصمت البومة ويَبيَضّ الغراب… فيتلألأ حبرك ومضات مضيئة تكشف عن فجر جديد للشّعر والشّعراء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *