الرواية القصيرة جدًا… مُبرّرات الولادة وآفاق التطوّر
العراق-حميد الحريزي
الإبداع الأدبي مرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الإنسان، ومنذ أقدم العصور، كحاجة روحية تعيد للإنسان توازنه، وحتى قبل أن يعرف الكتابة، كان يرسم ويقرأ مدلولات صوره على الأحجار وفي داخل الكهوف وعلى جذوع الأشجار، حيث يبدو الفن في طفولة البشرية كوسيلة سحرية لتلبية حاجات مادية وروحية انسانية، ترتبط بالطبيعة وفي ما ورائها. وقد كان الشعر، أي الكلام الممغنط والمموسق المتلائم مع ما تفرزه الطبيعة، من أصوات المطر والرياح والشلالات وخرير المياه، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف أوراق الأشجار، بالإضافة الى أصوات الطيور والحيوانات…
وقد ارتبط تطور الآداب مع تطور حياة الناس، انتقالا من حياة القطيع والصيد والالتقاط، الى الزراعة واكتشاف النار، الى صناعة الأدوات الحجرية البدائية، واكتشاف المعادن كالحديد والنحاس… التطور من مرحلة المشاعية البدائية الى مرحلة الاقطاع وتشكيلاته، الى عصر النهضة وهيمنة البرجوازية من خلال الثورة الصناعية في عصر النهضة، وهيمنة البرجوازية على السلطة والثقافة، فقد تطورت الفنون كافة من حال الى حال، وتطور الرسم من الانطباعية الى التجريد والسريالية والدادائية، والشعر من الوزن والقافية الى التفعيلة فالنص النثري والومضة والهايكو.. والسرد من الملحمة الى الرواية، وهي بيت القصيد هنا، حيث تمثل شكلا متطورا من التفاهم البشري مع ذاته ومع الانسان الآخر ومع الآلهة، معبرا عن هذه الرغبة للتواصل مرة بالحركة والايماءة والرقص، ومرة بالصورة، وفي مرحلة متأخرة ومتطورة باللغة والكتابة، ففي البدء كانت الرواية الخيالية وحكايا الجن والآلهة والملاحم الى الرومانسية ثم الرواية الواقعية بمختلف أهدافها، وكل هذا يرافق ظروف الحياة الانسانية المعاشة في كل مرحلة وكل أسلوب انتاج وعلاقات انتاج، وحسب متطلبات وحاجات وثقافة كل طبقة اجتماعية…
ملحمة البرجوازية
فالرواية كما هو معلوم هي ملحمة البرجوازية بامتياز، هي الطبقة التي عاشت في بحبوحة من الرفاهية والكسل والتمتع بوقت فائض، حيث تعتاش وتعتصر جهد وفكر ووقت الطبقات الكادحة من العمال والمهندسين المهرة، فهذا الوقت الفائض بحاجة الى ما يشغله، فكانت الرواية احدى هذه الوسائل. وقد كتبت بإسهاب كبير بحيث تجاوزت عشرات الآلاف من الكلمات والمئات من الصفحات، فمثلا رواية “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست 1200000 كلمة، تناولت زمن انعزال الشعوب عن بعضها البعض، مما أدى الى عدم معرفة تفاصيل حياة وثقافة كل منها، واختلاف المعمار بين مختلف القوميات والشعوب والطبقات الاجتماعية، مما يستدعي من الروائي الإسهاب في ذكر أدق التفاصيل حول الشخصية الروائية كالبطل والشخصيات الثانوية من حيث الشكل العام للجسد ولون البشرة والعيون والطول والقصر وقوة أو هزال البنية العضلية، طبيعة الحركات والسكنات للشخصية وما يميزها عن غيرها، بل وشكل الملابس وموديلاتها لكل طبقة وفئة اجتماعية وما يميز كل طبقة عن غيرها وكل قومية عن سواها.
الأجناس الأدبية
لم تأت الاجناس الأدبية منزلة من السماء، ولم تولد مرة واحدة في حضن المبدع الانسان، انما هي كانت منذ البدء مرادفة الى احساسات الانسان وهواجسه ضمن فترة زمنية معينة، متناسبة مع ظروف اقتصادية واجتماعية محددة، حيث يجد الانسان انه بحاجة الى التعبير عن افكاره وأحلامه وطموحاته بهذه الطريق أو تلك، ولاشك انها كانت عبارة عن حركات والتواءات واهتزازات للجسد، تتوسل او تغري او تخيف، وحسب علاقة الانسان بالمخاطب.
لا نريد ان نسهب في عرض تاريخ الآداب والفنون، ولكننا نريد ان نوضح عملية التطور لهذه الآداب والأجناس من جنس الى آخر: الشعر، والحكاية والرواية، قصيدة العمود والحر والنثر والنص المفتوح، القصة الطويلة، القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا والومضة.
وهنا لا يمكن ان تختلف الرواية – هذا الفن المديني بامتياز – عن بقية الاجناس الادبية، فالرواية ولدت بإحجام وأساليب مختلفة، وكتبت وفق مدارس ادبية وفنية متنوعة. فهناك الرواية الطويلة جدا والمؤلفة من عدة اجزاء، والرواية الطويلة المؤلفة من عدة مجلدات، الرواية المتوسطة، الرواية القصيرة، وهنا فلا غرابة ولا شذوذ ان يولد نوع من جنس روائي يحمل اسم “الرواية القصيرة جدا”.
ففي بداية كتابة الرواية التي رافقت عصر التنوير ونهوض البرجوازية الاوروبية، وشغفها الكبير في اكتشاف المجهول والبحث في ادق التفاصيل، سواء في الطبيعة ومتطلبات السيطرة عليها عبر تملك ادق التفاصيل عن مكوناتها، من مياه وبحار ونباتات وحيوانات، ومكونات التربة واكتشاف المعادن المختلفة وخصائص كل منها.
إن الضرورة الملحة لكي يمد الرأسمال نفوذه في كل ارجاء المعمورة، تطلب دراسة اساليب حياة البشر وعاداتهم: مسكنهم، مأكولاتهم، درجة تعليمهم، ما يحبون وما يكرهون، دراسة تفصيلية لنفسياتهم، كمن يكتشف خواص احد المعادن لغرض تطويعه واستخدامه في مختلف الاغراض الصناعية والزراعية والحربية.
إن الحاجة للإيغال في التفاصيل انعكست بشكل كبير على الادب، وقد استجابت له استجابة كبيرة واشبعت فضوله الرواية الطويلة، التي لم تترك شاردة ولا واردة، صغيرة او كبيرة إلا ذكرتها بخصوص اسلوب حياة الشخصيات وعاداتهم: ملبسهم، مأكلهم، معمار البيوت والمدن التي يسكنونها، الخ…. فمن يقرأ احدى هذه الروايات يستطيع ان يكوّن صورة شبه كاملة عن احوال الناس – موضوع الرواية – ومعرفة ادق تفاصيل حياتهم بما فيه شكل افرشتهم وغرف نومهم وأثاث بيوتهم، حركاتهم وسكناتهم وطريقة حديثهم، بما يميزهم عن غيرهم وتكون لدى القارئ صورة شبه كاملة التوصيف في مخيلته. كان الكاتب يضطر للسفر الى هذه الاماكن مهما بلغت من البعد والاختلاف عن بيئته، يعبر البحار ويقطع القفار؛ ليكوِّن صورة واضحة عن ابطاله لتكون كاملة مكتملة امام انظار القارئ، فلم تكن وسائل الاتصالات متطورة بما فيه الكفاية ولم تكن الفضائيات ووسائل نقل الصورة كما هي في عصرنا الراهن، حيث اعطتنا ادق التفاصيل حول كل ما ذكرناه انفا. تتميز الرواية الطويلة بنت الوقت الفائض، بنت التلقين للمتلقي والتي لاتترك له حتى أن يلتفت الى ما حوله، المتسيّدة التي لاتدع المتلقي يتخيل الحدث، يتخيل الشخصية، وشكل المكان، ولا تسمح أن ينفذ القارئ بقدرته الذاتية وحنكته على استنطاق الشخصية وفهم سلوكياتها، بل عليه أن يتلقى كل شيء من الراوي، فهو كفيل أن يصف له كل شيء كل شاردة وواردة من سلوكية الشخصية، ما تحب وما تكره، المكان طبيعته ومواصفاته، القمر هل كان بدرا او هلالا، تفاصيل أثاث الغرف لون الجدران واشكال الثريات، مائدة الطعام والصحون والملاعق والصواني والأباريق وووو..
إنها تشبه خطيبا مهيبا يعتلي منبرا متعاليا يلقي خطابه ومواعظه ويروي ما يشاء وما يتخيّل وما يتصور ليسكبه في دماغ المتلقي الذي يجلس صامتا تحت منبره ليس له أن يضيف أو يتخيل أو يشطب ما يقتنع به بل يهز رأسه بالقبول والاستماع لما يقول سيده الراوي العليم والراوي كلي العلم، وربما تطول هذه الخطبة وهذا القبول والاستماع أياما وربما أسابيع حتى ينتهي من قراءة رواية من أربع أو خمسة مجلدات بالآف الصفحات. فالقول ما قاله هوغو والقول ما قاله ديستوفسكي والقول ما قاله تولستوي وخير ما قالوا…
المنتجات الجديدة والأسواق الخارجية
الراوي في الرواية التقليدية يفرض ما يريد على القارئ المتلقي دون ان يكون له حق في الاعتراض. هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الانتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد.
وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من طرح المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة، حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الاستعمار واحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات، فوفر للفرد في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا ان تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني.. الخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد… وبذلك انتفت الحاجة أو تضاءلت بالنسبة إلى الروائي للإسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها من تعريف وتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقارئ والمتلقي قد استبطنها مسبقا، وبذلك تطلّب الواقع اختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطورت وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، مما وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الابتعاد عن الاسهاب المفرط، فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تتراوح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلماتها قد لا يزيد عن 20000 كلمة، حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وامكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا… رافق كل هذا ما أفرزته الحياة من متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لا تشغل أعظم وقت الأنسان الاعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الاستهلاك والتسليع، كما سيكون عليه الحال لاحقاً، مما أتاح للمثقف والانسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت لساعات للاهتمام بالغذاء الروحي متوسط الحجم والكلفة كالرواية مثلا، التي أتت بحجم يتلاءم تماما مع وقته المتاح.
التكثيف والاختزال من متطلبات عصر العولمة
أما في عصرنا الحالي، حيث الآلاف من الفضائيات التي تبث عن طريق الأقمار الاصطناعية والتي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى شكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثتها الانترنيت وسهلت التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيوبات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو الى اقصى غابات أفريقيا،
فقد تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الانسان اليومية، يعمل توفيرها كنار تلتهم وقت الانسان المعاصر للوصول الى الحد الأدنى منها.
هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، يعتمد السرعة في كل شيء، في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للإنسان كالأفلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للإنسان الراكض دوما في مسيرة الحياة، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه بـ”الرواية القصيرة جدا” وهو نوع جديد من أنواع جنس الرواية، حيث وفّر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما اصبح شائعا ومعروفا ومتداولا بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة الى الاسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد الذي يعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته، فقد أصبح الانسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو ما يسمى بعالم الأطراف، فاختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي استنبطها القارئ المتلقي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات واسعة الانتشار، دعا الروائي الى الاستغناء عن عرضها أمام أنظار القارئ، نعم لا حاجة لما تعرضه لي أنا الآسيوي عما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر صديقي من فرنسا الذي التقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الانترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته.
فحينما يذكر الروائي برج ايفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيّلة المتلقي لأنَّه يعرفها، أما من خلال سفره الذي اصبح ميسّرا لأغلبية الناس، أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسة أو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا أو ماركس أو جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا وأراغون وكذلك مشاهير الرياضيين تحضر كل تفاصيل هذه الشخصية وتاريخها في مخيلة القارئ والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح أي بيت في العالم لا يخلو من جهاز التلفاز وتوفر شبكة الانترنيت وامتلاكه لجهاز هاتف نقال ينقل إليه كل شيء…
فعندما يتحدث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة الى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعرض “الماكيت”، أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر… الخ، كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة للعولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر.. فلا حاجة الى توصيف الشخصية والاكتفاء بذكر علاماتها الفارقة…
جلسة في قطار سريع
وبذلك فالرواية القصيرة جدا بحجمها المختزل كثيرا الى كتيّب أو كرّاس جيب صغير لا تحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو اكثر من بلد الى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للإنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لا تزيد كلماتها على 5000 كلمة ولا تزيد صفحاتها كما نرى على 50 صفحة وقد تكون اقل من ذلك بكثير، فالإنسان في عصرنا الحالي مشغول دوما بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لا تترك له مشاغله اليومية إلا حيزاً محدوداً جدا من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموما. مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير ما يمكن من الغذاء الروحي للانسان، وحمايته من الوحدة والتوحّد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاظة السلوك.
نوع الرواية القصيرة جدا يتيح للمتلقي المشاركة في تصوّر وتخيّل انفعالات الشخصية ومستقبل تطورها وان لا يخرج عن الخط العام للرواية وحياكة خيوطها ولكنه قد يستعمل خيوطا مختلفة عن خيوط الراوي وعن طريقة حياكته، وهذه الامكانية قد منحتها الرواية القصيرة جدا للمتلقي وللقارئ بحيث يحاور ويناقش ليكون مشاركا للروائي في بناء وكتابة رواية موازية في مخيلته، مما يولّد الشعور لدى القارئ بأهميته ووجوده الفاعل وليس المتلقي السلبي الملقن “الكسول” كما في الرواية الطويلة والرواية المتوسطة… كما ان الرواية القصيرة جدا تختزل الزمن بما لا يقاس بالنسبة للرواية الطويلة عبر الاختزال والومض وليس الفرض، التلميح والترميز وليس الاسهاب في التشريح والتوضيح، تاركة هذه المهمة لعقل المتلقي وثقافته. ولا شك أن اختزال الزمن أمر في غاية الأهمية في عصرنا الراهن، حيث تمتص اسفنجة الاستهلاك والاحتياجات اليومية للإنسان في عصر العولمة كل وقت الانسان ولا تترك له الا زمنا ضيقا جدا يقاس بقدر مساماتهما ليستمتع بالقراءة وتغذية روحه من الفن الروائي والموسيقى والغناء والتأمل الحر، ونرى أن هذا الخطيب وهذا الواعظ وهذا القاص قد سحب الزمن العجول الملول المتسارع المتسائل منه كرسي الهيمنة والسيادة مفتشا عن بديل يشاركه السرد والصورة ولا يفرض عليه جبروته كلي القدرة فكانت الرواية القصيرة جدا خير بديل كما نرى.
فالرواية القصيرة جدا، كتيب الجيب الصغير المتواضع والغني بالصورة الابداعية والخيال الباذخ دون تضخم ودون ثقل ودون كلفة لا بالمال ولا بالحيز ولا بالزمن.
كل هذا وغيره يجعلنا نقول إن الرواية القصيرة جدا هي رواية الحاضر والمستقبل بامتياز، طبعا أنها مهرة ليست سهلة الامتطاء والترويض وانما تحتاج الى فارس يمتلك الخبرة والقدرة وأسلوب الترويض والكفاءة الكاملة لحياكة خيوطها غير متناسيا شريكه القارئ والمتلقي..
الرواية القصيرة جدا هي غذاء الروح وهي زمن قصير مسروق من وقت الهم اليومي للإنسان الذي يسابق الزمن من أجل تأمين متطلباته الحياتية في زمن العولمة الرأسمالية… الرواية القصيرة جدا سرد وجيز يؤشر رؤوس أسطر لأحداث إنسانية، وتترك للمتلقي سرد التفاصيل مما استبطنه عبر ثقافته الذاتية. الرواية القصيرة جدا، وليد جديد جاء من رحم الواقع الانساني الحاضر، مولود ألقي في بحر أمواج الثقافة والابداع المتلاطمة، مطلوب منه إجادة السباحة للوصول الى شاطئ الآمان والرسوخ كلون جديد من جنس الرواية. الرواية القصيرة جدا، وليد أفرزه رحم الواقع المعاش. هناك من يعتبره مولودا متكاملا، أو من يرى أنَّه وليد خديج بحاجة الى أن يوضع في حاضنة ليكتمل نموه، وهناك من يرى أنَّه ولد ميتا، حاله حال أي نوع أدبي جديد ولد واندثر. الرواية القصيرة جدا، اختزال وتكثيف في اختيار المفردة والجملة السردية بعيدا عن الاسهاب في التوصيف والتعريف وتفاصيل يستبطنها المتلقي من خلال حياته المعاشة، على الرغم من كل ذلك فهي تحتفظ باشتراطات الجنس الابداعي الأم، الرواية فهي نوع جديد من أنواع جنس الرواية وليس جنسا جديدا.
الرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الاسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لا يفوتها قطار السرد فائق السرعة ولا يتضايق منها القارئ المتلقي. وهي لا تمسك بالقارئ لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة..
وهنا تكمن بالضبط الصعوبة بالنسبة إلى كاتب الرواية القصيرة جداً، إذ تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، فيجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لا يسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث، وتحوّلات الزمان والمكان، على الرغم من الالتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد ممكن من الصحون والمقبلات.
وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا ينطوي على رشاقة لا تعني الهزال، ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لا تفرط باشتراطات جنس الرواية.
اختزال صفات الشخصية
من مميزات الرواية القصيرة جدا اختزال صفات الشخصية من حيث الملابس وطريقة العيش لأنها أصبحت معروفة عن طريق صور الفضائيات والنت واسع الانتشار…. كذلك الحاجة إلى توصيف العمارات والبيوت والفلل في مختلف البلدان فالمتلقي حينما تقول امريكي يعرف طريقة عيشه ولبسه وعمران بيته حسب طبقته الاجتماعية وعرقه…ا ستخدام الترميز والايحاء واشراك المتلقي في رسم المشهد في مخيلته دون الحاجة الى سرده بكل تفاصيله كما في الروايات الطويلة وحتى في الروايات القصيرة…عدم الخوض في الجزءيات التي لا تؤثر على مضمون استخدام اللغة الشعرية الرشيقة…المحافظة على تعدد الشخصيات واختزال الحوارات الطويلة… اعتماد الاشارات المكانية والزمانية الرشيقة…الحاجة إلى سرد الحوار الداخلي للشخصية بالتلميح وترك التفاصيل للقارئ حسب فهمه للنص والشخصية وثقافته السائدة في بلده، واعطاء فرصة لأكثر من استنتاج لما يمور في دواخل الشخصية تختلف من قارئ الى آخر وحسب فهمه وتحليله للنص الروائي، وبذلك يتحرر المتلقي من وصاية الراوي في فرض ما يراه هو حول ما يدور في نفس الشخصية، وكأننا نقترب هنا من النص الشعري النثري الذي يعطي للمتلقي حرية التأويل والتحليل لصوره الشعرية فتجاوز بذلك واحدية الصورة في القصيدة العمودية التقليدية.
اعود وأقول إن: الرواية القصيرة جدا بنت عالم السرعة والاختزال، تعطيك الحكاية وتترك للمتلقي والقارئ فرصة تفكرها وتخيل مشاهدها وفق ما يختزنه من ثقافة ومعلومة حول الشخصية والحدث.
الرواية القصيرة جدا رفيقتك في القطار والطائرة والسيارة وفي محطة الاستراحة.
الرواية القصيرة جدا محفظتها جيبك، فلا تضايقك وهي بنت الاختزال في الحجم والحيّز مع تأدية كافة شروط الرواية بمختلف انواعها، ولنا في جهاز الموبايل الذي بين أيدينا كيف دمج بين اجهزة مختلفة في جهاز واحد خفيف الحمل متعدد النشاطات فهو الراديو والتلفزيون والتلفون والمكتبة والجريدة والكاميرا والمنبه ومدير الاعمال… هكذا اراد عصر العولمة والتكثيف والاختزال، وبذلك فالرواية القصيرة جدا تعطيك وتغنيك وتمتعك دون أن تضنيك وتتعبك، ولكنها تختلف عن جهاز الموبايل، حيث يختزن كل هذه الاغراض في ذاكرته، فالرواية القصيرة جدا تحيل الكثير من التفاصيل التي كانت تسهب في ذكرها الرواية الطويلة الى ذاكرة القارئ وما يستبطنه المتلقي من إطلاع ومعرفة…
الرواية القصيرة جدا مصطلح وعنوان نوع جديد من جنس الرواية، بالتأكيد كتبه الكثيرون من الروائيين ولكن لم يعلموه بعنوان “رواية قصيرة جدا” كما أزعم أنا حيث كتبته في عام 2010 و2013 فكانت لي رواية “أرض الزعفران” ورواية “القداحة الحمراء” التي نشرت الكترونيا من قبل “دار حروف منثورة” المصرية، وقد فازت “ارض الزعفران” بالجائزة الثانية في مسابقة على نطاق العالم العربي… ولم اكن اعلمها بالرواية القصيرة جدا…
ولكني بعد التفكر وكتابة روايات اخرى رأيت انها أقصر من رواية قصيرة كما هو مألوف كتابتها من قبل الروائيين العرب والأجانب، وعرضت لي القصة القصيرة جدا فسألت نفسي لماذا لا تكون هناك رواية قصيرة جدا بكلمات لا تزيد على 5000 كلمة وقد تتكون من عدة وريقات فقط… حيث الاختزال والتكثيف والترميز مع بقاء التزامها بشروط الرواية من حيث تعدد الشخصيات وتعدد الأمكنة والزمن والثيمة، فكان ذلك، حيث نظّرت لها ونشرت هذا التنظير في “جريدة الزمان” بمقال بعنوان “قول في الرواية القصيرة جدا” في 15\3\2015 ونشر في موقع “الحوار المتمدن” في موقعي الفرعي بتاريخ 17-3-2015… ثم طبعت كتيبا ضم اربع روايات قصيرة جدا هي “المقايضة” و”أرض الزعفران” و”القداحة الحمراء” و”المجهول” بتاريخ 2019 مودع في دار الكتب والوثائق ببغداد (1962- 2019) من قبل دار ومطبعة حوض الفرات في النجف، اذ كتبت رواية خامسة بعنوان “مذكرات كلب” في عام 2023 نشرت في عدد من الصحف العراقية. وما زلت امارس هذا النوع من الكتابة….
الخلاصة، اني نشرت وطبعت الرواية القصيرة جدا في عام 2019 ونظّرت لها في عام 2015 .
تحياتي وعظيم شكري وتقديري لموقع الف لام لنشر دراستي حول الرواية القصيرة جدا بهذا الاخراج الرائع الف شكر للاستاذ طرابلسي للاهتمام والنشر والمتابعة راجيا لكم المزيد من التقدم وانتم ترحبون بهذا الوليد الجديد الرواية القصيرة جدا املا أن تلقى المزيد من الاهتمام من قبل النقاد والروائيين والمهتمين بالادب ليكون منجزا عربيا وعراقيا مميزا
بكم نرتقي