جان بول سارتر والفكر العربي المعاصر

Views: 387

وفيق غريزي

جسّد الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر فلسفته النظرية في شخوص أدبية ومواقف روائية ومسرحية، ولقد قام الأدباء العرب بنقل طائفة من روايات سارتر ومسرحياته، أما ترجمة كاملة او تلخيصا لمادتها، ونخص منها مسرحية “الذباب”، التي ترجمها محمد القصّاص، كما تُرجمت رواية “الغثيان”، على أن الترجمة لم تكن هي كل ما صنعه الأدباء العرب بفلسفة سارتر، بل اضافوا اليها عنه في ما لا يكاد يحصى من الكتب والمقالات. وقد بلغت عناية ادباءُنا بسارتر أن تعقّبوا كثيرا ما كتب عنه في اوروبا واميركا، لأن سارتر يرسم في اعماله لوحة مقتدرة للحياة، ناظرا اليها من زوايا جديدة كاشفة، وفيها ينزع عن النفس البشرية قشرة مدنيّتها ويقشّر طبقات من الخبرة في مهارة عنيفة، كما يكشف عن اعماق الحق، والحسية والعصبيّة في عصرنا، وعن الشر الغامر الذي يمكن للإنسان الحديث أن ينحدر الى مستواه. وعلى كثرة معجبيه، كثيرا ما تعرّض سارتر للنقد بسبب عناصر التشاؤم التي يزخر بها مذهبه الوجودي نفسه، بمحض اختياره في نطاق عالم ينكر وجود الحقيقة الموضوعية مثلما ينكر قدرة العقل الانساني على تجاوز حدود العالم المادي. 

 

سارتر والصراع العربي – الاسرائيلي 

يرى سارتر أن وجود الكيان الصهيوني في فلسطين معطى تاريخي لا يمكن الطعن فيه وأن المشكل الذي ما زال معلقا هو وجود اللاجئين الفلسطينيين لا وجود الشعب الفلسطيني. إنه اختلاف اساسي تسعى الصهيونية الوثوقية الى حجبه واغفاله. غير أن الصهيونية المشروطة، نظرا لعمائها المتولِّد عن الشعور بالذنب، لا تدركه ولا تفهمه. ومنذ العام 1967 عبّر سارتر في مناسبات عديدة عن تأييده لإقامة دولة إسرائيل، وبالمقابل أيّد قيام دولة فلسطينية مستقلة حرة مسالمة، وفي هذا السياق نفسه دافع سارتر بحرارة عن أحد تلامذته الصهاينة الوجوديين (روبرت مزراحي) الذي حوكم لتورطه في عملية ارهابية قام بها ضد المصالح البريطانية في فرنسا ضمن عصابة “شتيرن” الصهيونية التي كان ينتمي اليها.

 في شباط 1948، وقبيل الاعلان الرسمي عن قيام دولة إسرائيل ببضعة أيام، بعث سارتر برسالة تأييد وتضامن الى الجامعة الفرنسية من أجل فلسطين حرة، يتّهم فيها الحكومة البريطانية بتسليح عرب فلسطين وتشجيعهم على قتل اليهود لتبرير بقاء بريطانيا في فلسطين. الدكتور نور الدين اللموشي أكد أن سارتر يبني في هذه الرسالة موقفه المنحاز لإسرائيل على القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين، ولكنه يبقى مناصرا لليهود، فهو يتحدث عن العرب مستعملا عبارات سلبية جدا مثل “العصابات العربية تستعد حول حيفا”، و”إن القناصين يعنفون البادية، كل شيء قد هُيّء للمذبحة”. ويتهم العرب بإبادة اليهود. لكن سارتر الذي يبني موقفه على رفض الظلم والتعسف وعلى مبادىء حقوق الانسان، عندما يتعلق الأمر بالمجازر الوحشية النازية ضد اليهود، يتناسى الظلم والعنف اللذين سلطا على الشعب الفلسطيني بموجب قرار التقسيم، وهو لا يرى أن هذا العنف هو الذي كان وراء الروح الحربية عند العرب وليس (كما يدّعي الغرب) رغبتهم في ابادة اليهود. وهو عندما كان يؤيد في ذلك الوقت تكوين كيان اسرائيلي في فلسطين، كان لا يعير أدنى اهتمام للشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في السيادة على ارضه. 

وفي العام 1949 حيّا سارتر بكل حرارة الذكرى الأولى لقيام الدولة الاسرائيلية قائلا: “ينبغي أن نكون سعداء لقيام دولة إسرائيلية تجسّد آمال ونضالات يهود العالم باسره. إن انشاء الدولة اليهودية يعتبر من أهم الأحداث التي عرفها عصرنا، أي تلك الأحداث الفريدة التي تمكننا من الابقاء على الأمل”.

وكان سارتر، حسب رأي نور الدين اللموشي، قد بدأ يهتم بالقضية الفلسطينية والعربية وبمصير الشعب الفلسطيني المضطهد في سنة 1965 تقريبًا، ولو أنه (سارتر) قد أيّد في الواقع الثورة المصرية وساندها منذ العام 1956 ضد العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر من طرف إسرائيل وفرنسا وبريطانيا. 

وفي العام 1965 عبّر سارتر من جديد عن تعاطفه مع الثورة المصرية، معلنا رغبته في القيام بزيارة الى مصر واسرائيل وتسخير عدد خاص من مجلته “الازمنة الحديثة” لفتح حوار بنّاء بين اليسار العربي واليسار الإسرائيلي، يوضح اطروحات كل منهما. ويرى سارتر أن النزاع العربي -الاسرائيلي صراع بين مضطهدين يصعب حله، إذ يستوعب (حسب رأيه) التسليم بحقيقتين متضادتين: فمن ناحية لا بد من كيان وطني لضحايا اللاسامية القدامى، ومن ناحية أخرى، لا بد من تمكين الفلسطينيين من حقهم في الرجوع الى الوطن الأم وتقرير المصير، وهذا معناه في الوقت نفسه حق البقاء والعيش في فلسطين بالنسبة الى اليهود والفلسطينيين. إن الموقف الحيادي، الذي اعلن عنه سارتر قبل اندلاع حرب 1967 بأشهر عدة، لم يدم طويلا، كما كان متوقعا، فمنذ نهاية شهر ايار سارع سارتر مع شخصيات أخرى من اليسار الفرنسي الى توقيع عريضة تحمّل العرب مسؤولية اندلاع الحرب وتكتفي بالمطالبة ببدء مفاوضات مباشرة بين دول ذات سيادة، من دون أن تذكر اطلاقا حق الفلسطينيين الشرعي في تكوين دولتهم المستقلة. وفي مقالته، التي تضمنها كتاب “سارتر والفكر العربي المعاصر”، الذي اعّده وحرره الدكتور احمد عبد الحليم عطية، يشير نور الدين اللموشي، الى أنه بالرغم من أن سارتر لم يؤيد بتوقيعه تلك العريضة التي تدين احتلال اسرائيل للأراضي العربية، فقد وجد موقفه هذا موجة من الاستياء والسخط في العالم العربي، مما جعله يفقد الكثير من الاعجاب والتقدير اللذين كان يحظى بهما لدى الكثير من المثقفين العرب اليساريين.” وبالفعل تعرّض سارتر بسب ذلك الى رد فعل عنيف جدا من قبل “جوزي فانون”، ارملة المفكّر والمناضل الثوري المارتنيكي فرانس فانون، التي (جوزي) اتهمته (سارتر) بالانسياق وراء الحملة الهستيرية التي كان يشنّها اليسار الفرنسي على العرب. أما الأديب المغربي عبد الكريم الخطيبي، فقد انتقد بشدة موقف سارتر من الصراع العربي – الاسرائيلي معيبا عليه انحيازه الواضح الى جانب إسرائيل قائلا: “إن سارتر قد انحاز الى الطرف الاسرائيلي ولكنه يعيش في الوقت نفسه وهمًا لا ريب فيه، اذ هو يدّعي أنه الى جانب الحقيقة، أي مع العدوين في وقت واحد”. إن تعاطف سارتر مع الصهاينة وتفهّمه للخصوصية اليهودية منذ الأربعينيات من القرن الماضي جعل موقفه من النزاع العربي – الاسرائيلي يختلف مع وجهة نظر اصدقائه من اقصى اليسار الأوروبي الذين كانوا مناصرين للعرب. ولكن يبقى الحق يقال مرة اخرى، أن تفهّم سارتر لليهود ولإسرائيل لم يمنعه من التعاطف مع الفلسطينيين، وكأنه بوجهين متضادين مع الجزّار ومع الحمل بوقت واحد، بل كان على العكس من ذلك حافزا له، يدفعه دوما الى الأمام من اجل فتح حوار وايجاد تعايش سلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وخاصة انصار السلام منهم.

 

سارتر في الفكر العربي المعاصر

هنا لا بد من تبيان الصورة التي رسمها الكتّاب العرب حول سارتر في الوجدان والعقل العربيين. فقد كتب عبد الكبير الخطيبي مقالا ورد في الكتاب الذي حرره احمد عبد الحليم عطية الوارد ذكره سابقا، قال الخطيبي فيه:

” كلما كتب سارتر يكتب عنه، وكلما زاد سعينا للامساك به انفلت. وها هو يحلِّق مثل طير ثمل قضي عليه، لا يطير في السماء مثلما حكم على آخرين بأن يحفروا في الأرض. إنها ارادة قوة لا تنفك تربط اكثر قراءها انتباها “.

وتحت عنوان “نحن وسارتر” صدرت للروائي سهيل ادريس افتتاحية في أحد اعداد مجلته 

” الأداب”، التي اسهمت دار الأداب في التعريف بفلسفة سارتر وترجمة كتاباته،

يسأل ادريس في الافتتاحية: “لماذا هذا الاهتمام؟”، ويجيب: “تفسير هذا يتضح في أن العرب وجدوا في كتابات سارتر ما يعبِّر عن معاناتهم وهمومهم. لقد كان الأديب الوجودي، الذي يمثله سارتر أفضل تمثيل، تعبيرا عميقا عما عاناه الجيل الفرنسي منذ الكارثة الفرنسية اثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. ولعل شيوع هذا الأدب في عالمنا العربي معزو الى أن الأجيال العربية الجديدة تجد فيه ما يشبه التعبير عما تعانيه من كارثة فلسطين”. ولا يختلف ما كتبه سهيل ادريس من حيث الشكل والمضمون عما كتبه الماركسي المصري احمد عباس صالح في رسالة وجهها الى سارتر عبر مجلة “الكاتب” القاهرية، يقول فيها: “ليس جديدا عليك أن تعرف مدى تأثيرك في الثقافة المعاصرة. ولكن الذي قد تتردد في تصديقه هو أنك لمست شغاف القلب لدى المثقفين العرب، وأن تأثيرك الفكري في هذا الوطن القديم – الجديد المتطلع بأقسى قوة للطموح الانساني الى حياة جديدة يختارها من بين كل المواقف المطروحة بمعاناة تأمل وحرية. إن تأثيرك في هذا الوطن أعمق واوسع من تأثير أي كاتب آخر “.

الحقيقة أن استقبال سارتر في الفكر العربي المعاصر اتسم بالحدة والجدال والصراع، وتلك هي الملاحظة الثانية. فكلما تحمّس المثقفون العرب لأفكار الحرية والالتزام بالمسؤولية، فإن هناك من وجد في الوجودية فلسفة رجعية، وكما ترجمت “الوجودية نزعة انسانية ” الى العربية، ترجمت ايضا دراسة جان كنابا “الوجودية ليست فلسفة انسانية” وترجم ايضا كتاب لوك لوفافر “سارتر والوجودية” الذي يعدونه وصفا دقيقا للفكر السارتري، ويواجه بدعة الوجودية ويقدّم نقدا لها، فقد ثار الهجوم والنقد ضد سارتر والوجودية من تيارات متعددة. يقول الكاتب المصري لويس عوض: “لقد كنت من اعداء الفلسفة الوجودية لأنني كنت اعدها انحرافا مثاليا في الفكر الفلسفي يستخدم لغة اليسار وثورية اليسار لينسف الواقعية التاريخية والمادية الجدلية، ويفصل الفرد من مجتمعه”. وفي الفكر العربي المعاصر هناك من حاول الربط بين سارتر والماركسية.

 

سارتر والثورة الجزائرية 

يدين سارتر الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ويفضح ما يقوم به من اسوأ انواع التعذيب والتخريب، والوان السلب والنهب والاعتداء على اعراض النساء وانواع الانتقام من السكان المدنيين، حيث الاعدام بالجملة وبلا محاكمة، ويقول سارتر: “إن الفرنسيين يكشفون في غمرة وحشيتهم هذه الحقيقة الهائلة: إذا لم يكن هناك ما يحمي أمة ضد نفسها، ولا ماضيها ولا اماناتها، ولا قوانينها الخاصة، واذا كانت خمس عشرة سنة كافية لتحويل الضحايا الى جلادين، فذلك لأن الظرف وحده هو الذي يقرر. فحسب الظروف يستطيع أي كان، وفي أي وقت، أن يصبح ضحية او جلادا … ليست الضحية والجلاد سوى صورة واحدة، انها صورتنا”. يريد سارتر أن يحمي الأمة الفرنسية من نفسها. يقول الدكتور احمد عبد الحليم عطية في مداخلته: “إن ما يهمنا في تحليل سارتر لنظام الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حيث يتوجّه للإنسان الفرنسي، ويحذره مما يسميه خداع الاستعمار الجديد، الذي يتمثّل في الادعاء بأن المسألة الجزائرية مجرد مسألة اقتصادية تحتاج الى اصلاحات، وهي مسألة اجتماعية وسيكولوجية”. وبحل هذه القضايا الثلاث تُحل المسألة وتعود من جديد الاأخوة الفرنسية – الاسلامية القديمة. تلك هي مهمة فرنسا، ويجب رؤيتها على هذا النحو، شريطة عدم خلط هذه الحاجات بالسياسة.

يريد سارتر أن يقدّم اوضح مثال عن النظام الاستعماري، وهو الاحتلال الفرنسي، وهو يرفض دعوى أن يكون هناك مستعمرون صالحون وآخرون اشرارا، ما دام الاستعمار يسعى الى تأكيد سيادته في الجزائر، هناك مستعربون فحسب. فإذا أدركنا ذلك، أدركنا لماذا يحق للجزائريين أن يهاجموا سياسيا وقبل كل شيء هذا النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكيف أن تحريرهم وتحرير فرنسا بالذات لا يمكن أن يكون إلا نهاية الاستعمار. ويرى البعض أن ثورة الجزائر كانت حرب سارتر. لقد كان يتجنّب كل الحوادث السياسية المهمة في ذلك الوقت، باستثناء حرب الجزائر التي كانت بطريقة او بأخرى، السبب الأكبر لبناء شخصيته العظمى، كما اشار رونالد دوماس.

 

المثقفون في المجتمعات المعاصرة 

إن النقد الذي يوجّه الى المثقف هو أنه دوما معارض وناقد، ويتدخل في ما لا يخصه من الأمور مستغلا شهرته وتأثير اعماله الثقافية والعلمية. ومن وجهة نظر سارتر فإن هذا النقد ليس موجهًا لرجل المعرفة على هذا الاعتبار المحدد، اذن، ما معنى ذلك؟ فبالنسبة لرجل اميركي في الولايات المتحدة يخدم اهداف الامبريالية، بعلم منه او بغير علم، وذلك بقيامه ببعض الابحاث الثورية، فهذا الرجل يقول سارتر: “يعد عالما وليس مثقفا، ولكن اذا اخذت نفسه تضطرب بما يقوم به من ابحاث كما حدث ذلك فعلا … واذا اشترك مع علماء آخرين في التوقيع على بيان يدين ما تستعمل فيه تلك الابحاث من اغراض غير انسانية، فهو يتدخل في تلك اللحظة في ما لا يخصه ويتحوّل الى مثقف”. توجد في الواقع محاولات محددة لاستخدام المعرفة التي تشكل ثورة الكاتب والقانوني والطبيب. فهناك لجان للتحقيق تذهب باسم المحكمة الى فيتنام لتجري فيها التحقيق والاستقصاء على اساس الواقع والعلم بشأن طبيعة تلك الأعمال واستنادا الى البقايا والآثار.

إن المثقف رجل معرفة، إلا أنه رجل معرفة علمية، لأنه لا يوجد الآن فرق حقيقي بين المعرفة النظرية والمعرفة العلمية العملية. المثقف يسعى الى تكوين نفسه في تناقض داخل المجتمع البرجوازي، ولكن ليس كل المثقفين يقومون بهذا التكوين لأنفسهم فهناك علماء يعيشون في حالة القلق ويتعامون عن رؤية الأمور، وهناك من يريدون بموافقة السلطات اضفاء هذا التناقض على غيرهم، فهم الذين يطلق عليهم كلاب الحراسة. هؤلاء من الخطأ تسميتهم مثقفين. إن المثقف هو الانسان الذي يشعر بالوعي من خلال لغة الكلام وبفضل الطبقات الكادحة.. وليس السبب في ذلك أنه يفوق العاملين، بل يقول سارتر: “لأن المجتمع البرجوازي قد شكّله على هذه الصورة.. تناقض يتم على مستوى العبارة، وعلى مستوى الكلمة. وبالتالي تلك الطبقة التي وضعته في تناقض ايديولوجي وفي خضوع دقيق، قد ارغمته على أن يعيش على مستوى الوضوح المعقول والوضوح العقلي. ويقول سارتر أيضا: “الصعوبة للمثقف هي أن يكون راديكاليا، كما يجب (قبل أخذ كل الأمور في الاعتبار) ألّا يقف موقفا في القضايا السياسية الواسعة المدى. إلا أننا نحن المثقفين المجردين عن كل سلطة والمؤيدين أدبيا للمثقفين الذين يحاربون في الفيتنام، لهذا السبب بالتحديد، نقول إن من شأن الرباط الذي يربط بيننا وبين الفيتناميين عبر المحكمة تجريد الإجراء الذي قد تتخذه آنذاك في صف التعايش السلمي أو ضده. ليس الأمر بالنسبة الى المثقفين أن لديهم ما يقولونه، بل أن كل الأمر هو انهم يبحثون عن راحة الضمير في الكفاح الذي يخوضونه بجانب الطبقات الكادحة”.

 

الخيال وموضوعاته 

اتضح لسارتر ولغيره من الفلاسفة المعاصرين أن ثمة ميدانا جديدا للبحث اكتشفته المدرسة الالمانية المعاصرة التي يتزعمها ادموند هوسرل؛ عمل ممثلو هذه المدرسة، بعد تخطيط عام لموضوع الفلسفة ومنهجها، على الدخول في تفاصيل دقيقة اهمها ما يتعلق بفعل الادراك الحسي ومشكلاته المختلفة. “

 ولكن، بالرغم من اشارات قيّمة وردت عند هوسرل، يلاحظ سارتر أننا لا نجد عنده بحثا مستفيضا في مسألة الخيال، يمكن موازنته بالدراسة التي قام بها الادراك الحسي “، ويؤكد سارتر أن من الضرورة القيام بوصف جديد لفعل الخيال وموضوعاته، يحاكي في دقته وتفاصيله الوصف الذي قام به هوسرل للإدراك الحسي. ويرى الباحث نجيب بلدي أن ثمة اجماعا عند الفلاسفة على اعتبار الخيال فعلا تظهر في الذهن بمقتضاه نسخ الموضوعات المحسوسة، ثم ترجع هذه له مرات كما لو كانت ترجع للذهن الموضوعات المحسوسة ذاتها. أما سارتر فيعارض هذا اشد المعارضة، وهو في معارضته قريب جدا من موقف شائع عند الناس وخاصة رجال الفن والنقد الفني، وهو أن الخيال يبعدنا اشد البعد عن الحقيقة الواقعية، وأن موضوعاته غير موجودة على الاطلاق، تصدر في الذهن وحده، عن قدرة الذهن ذاته، وان كان لها من الخصائص ما يجعلها تحاكي موضوعات العالم، ومن التأثير بالنفس ما يجعلها تفوق تأثيرات هذه الموضوعات في النفس،” ولا شك أن وصف سارتر، وإن كان غير متفق مع ما نعرفه في انفسنا او عن الفلاسفة من الخيال، فهو من ناحية وصف شيّق له قيمته، قيمة فنية اكثر منها قيمة علمية، وله ما يبرره فلسفيا من ناحية اخرى، من حيث أنه جزء لا يتجزأ من فلسفة لا يعرضها سارتر في بحث الخيال “.

إن كتاب “سارتر والفكر العربي المعاصر”، الذي حرره واعده الدكتور احمد عبد الحليم عطية، يكشف حقيقة مواقف سارتر من القضايا العربية، وتأثير فلسفته على الفكر العربي المعاصر…

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *