رياض فاخوري في “المستوحد” ولحظة اليقين الفالتة
وفيق غريزي
الشاعر الصديق رياض فاخوري، غيّبه الموت وهو في ذروة العطاء الإبداعي، مخلفا عددا من الكتابات الشعرية والإبداعية، من أبرزها ديوان “المستوحد”، الذي اعتبر إضافة قيّمة ولافتة الى رصيده الشعري…
والمستوحد في المفهوم العام والشعبي، هو الإنسان المتنوّر في محيط تلفه الظلمة والجهل، وهذا الواقع يشعره بالغربة النفسية والفكرية، ويدفعه الى اعتزال الناس، والابتعاد عن هموم اليومي المعاش وشجونه، ليحيا في احلامه ورؤاه في معتزل إشراقي، وكأنه “بوذا”، الذي ترك ملك ابيه وجلس تحت شجرة على ضفاف نهر الغانج، وغرق في تأملاته بالوجود المرئي واللامرئي. وهذا المستوحد، كما يقول الشاعر رياض فاخوري، قد ضاقت به الأرض: “فرأى شعوبا تتقاتل مذعورة، وكي يحتكم إلى سلاحه ليبقى، حمل قلما وورقة، وراح يكتب قصيدة تستعطف الولاة، في مشاعر تخفي وراءها قبضة السيف القاطع”.
إن الارض التي يتحدث عنها فاخوري هي أرض لبنان التي عرفت ابشع حرب دموية والتي لم يجد المبدع فيها إلا الابداع وسيلة لزرع بذور الحب في تربة النفوس واعادة اللحمة إلى الشعب الواحد، الذي تنازعته الغرائز البدائية – العنفيّة، ولهذا، فقد كان “المستوحد” لحظة يقين فالتة، لحظة تأمل تصطاد اليأس لتبقي على الحياة.
وخلال وجوده في معتزله، فوق القمم التي تعانق النور، نور الحقيقة، غارقا في سكينة تأملاته، فاجأه الناس بآلامهم وأوجاعهم فعكروا عليه صفاء هدأته، فما كان منه إلا الوقوف منتصبا يمزق أقنعة العالم ليكشف جوهره الفاسد – البشع: “غاشم هو العالم، تتحكم به، بفكره، بروحه، وبمادته قبائل غاشمة، وكم يخالج هذا العالم الصريع خوف ومذلّة، إذا جمع تمرده في معجزات المستوحد الساحرة، وانطلق في اشراقة او صرخة تدوي في ارجائه، وصولا إلى كلمات تعيد بناءه، وتكتشف من جديد نهاية سعيدة لإنسانه اللاهي، إنسانه المحب والمتعلّم حيث المهرجان الملكي يتأبّد بالمطر القلبي، اذ صمته يشبه عاصفته الخالقة”.
الإنسان اللبناني
إن المستوحد، يعيش ملحمة الإنسان اللبناني خصوصا، والانسان في هذا العصر عامة، ولهذا
” يسترد أوجاعه ولا يطيق صبرا هو في العصر وخارجه، يبحث عن حل نهائي لهذا الجيل، ومهما اطنب في لغته وثورياته يبقى واضحا في موقفه تجاه القضايا الكبرى التي حصرها العقل بالحياة والموت “. إن المستوحد هو “هملت” هذا العصر، لا يحمل مأساته الفردية وحسب، وانما يحمل مأساة الإنسانية برمتها. لأنه يختصر الانسانية بذاته المتفوقة – المستنيرة بأنوار العرفانية، والإشراق العقلي.
إن هذا المستوحد، الذي يرمز الى ذات الشاعر رياض فاخوري، هو في رأي نفسه ليس من طينة البشر الصلصالية، بل من طينة هيولية مكوّنة “من برق ورعد”، من طينة الذين يهدمون من اجل البناء، والذين يحرقون لإنارة الظلمات، انه “محارب عنيد، في تحليقه، نفسه قوية، روحه حرة، أوسمته وانتصاراته عائدة الى تحكيم العقل والقلب”.
لقد خط المستوحد لنفسه منظومات طبيعية ثلاث: “شمس لاتهجر النهار إلى الليل الا للشروق في أرض ثانية أكثر احمراراً وحبا، وقمر ينير الظلمة، فيما عتمة الشر قاهرة لكل موئل حي تحت الشمس، وبحر يفوز بيابسته الهادئة ليطعم الأفواه الجائعة ثماره الجوفية”.
الجوهر والمعنى
هذه المنظومات ليست وهميّة أو ترابية، كما يتوهّم البعض، وليست الشمس والقمر والبحر بمعانيها المتداولة المعروفة، والمرئية بعين الجسد، إنما معانيها مجازية، ترمز في الجوهر والمعنى الى العقل والقلب والسلام والمحبة والعدالة، وهي ايضا نقيض الجهل والحقد والظلم والاستلاب للإنسان، ولو لم تكن هذه المنظومات بهذا المستوى من النورانية، لما تميز المستوحد عن غيره من المخلوقات الآدمية. إنه كما يقول فاخوري: “فكرة، والفكرة تعمم على الأرض والبشر، ولكي تزرع في التربة الصالحة عليها أن تدفن في الأعماق لتعطي النبتة الصالحة “.
يتجاوز المستوحد في لحظات التجرد حدود التجسيد المادي، إلى المعنوية، إلى الرمز، إلى حبة حنطة، الى فكرة تنشر ها الريح في تربة الوجود، لإخصابها، واخصاب النفوس البشرية المجدبة، وفي أعقاب هذا التجاوز نادته الروابي بعد ان “تكلم وصلّى وصام في صومعته، ودعته الأرض اليها، فخرج يقطف سنبلة الحب من اعماق الرابية العتيقة”.
وبعد رحلته في مسالك هذا العالم يقرر المستوحد أن “يغادر صومعته وفي دفاتره العزلة، الأيام، الجوع، العطش، الندم، القلق، الحب، الحزن، الفرح، الحرية، الخير، الحق، أي كل تناقضات الحياة المضيئة والمظلمة الرفيعة والمتدنية “.
إن المستوحد يقترب في بعض جوانبه من “زردشت” للفيلسوف الالماني نيتشه، ومن جوانب اخرى من “النبي” الجيراني، ومن “خالد” لأمين الريحاني، و “مرداد” لنعيمة، ويفترق عن هؤلاء في جوانبه الأخرى، وهذا يعود الى معطيات الواقعية الحقيقية العصرية، والى الشاعر، لأن لكل مبدع رؤاه الخاصة، التي تتسم بها طاقته الإبداعية، وشخصيته.
والمستوحد يشكل حتى الآن آخر حلقات نتاج الصديق الراحل رياض فاخوري، وكان قد سبقه قبل ذلك كتاب “هملت اللبناني في مملكة النساء”، الذي شكّل إرهاصا لكتاب “المستوحد”، ولا بد في النهاية من الإشارة إلى أن المستوحد رؤية بالنسبة إلى فاخوري مهما اختلفت الأراء حول هذه المقولة…