سجلوا عندكم

ناجِي يُونُس في “عَيْنُ البُستان” شاعر مُفْعَمٌ بِالهَوَى

Views: 191

مُورِيس وَدِيع النَجَّار


يا صَدِيقِي هل لَنا مِ الدَّهرِ جُودْ، 

          فَيَمُنَّ، اليَومَ، والوَجْدَ يُعِيدْ
مَرَّتِ الأَيَّامُ، أَوهانا الوَنَى، 

          وطَوَى الدَّهشَةَ في الماضِي البَعِيدْ
ما تُراهُ عافَ مَغنانا الصِّبا؟! 

          ما جَحِدناهُ، فَلِمْ هذا الجُحُودْ؟!
أَينَها أَفراحُ عَهِدٍ زاهِرٍ، 

          كَم لَبِسناها… ويا طِيْبَ البُرُودْ؟!
يَومَ كُنَّا، والبَرارِي رَبْعُنا،

           وكُهُوفُ الوَعْرِ مَأْوانا الرَّغِيدْ
أَينَ، يا صاحِبُ أَخدانٌ لَنا، 

              رَحَلُوا لِلغَيْبِ، وانهارَت بُنُودْ؟!
أَينَ مِنَّا «عَيٍنُ بُستانٍ» نَأَت

           حِينَ أَصبَحنا وأَضوانا الرُّكُودْ؟!
أَينَها، نَشتاقُها في لَهفَةٍ؟!

           آهِ، كَم كانَت لَنا نَبْعَ سُعُودْ
أَينَها مِنَّا، وباتَت حُلْمَنا؟!

           أَينَ، يا عاشِقَها الصَّبَّ العَمِيدْ؟!
أَتُرانا، إِنْ وَرَدْنا عَذْبَها،

           نَستَطِيبُ الوِرْدَ، يَحْلَوْلَى الوُرُودْ؟!
أَيُناغِي الماءُ مَلقانا وقد

           جَفَّ ماءُ العَزْمِ في تِلكَ الخُدُودْ؟!
أَيَهُلُّ الدَّوحُ لِلمَرأَى الَّذِي

           زَهْرُهُ باتَ، مع الشَّيْبِ، طَرِيدْ؟!
يا لَيالِينا، ولَو ذِكْرَى ارْجِعِي،

           جاشَ فِينا الشَّوقُ، وانهارَت وُعُودْ
لَيتَها تَرجِعُ، لَكِنْ أَينَها،

           خَفَتَ اللَّحْنُ على ذاكَ القَصِيدْ
لَيتَ… لكِنَّ الأَمانِي خُلَّبٌ،

           لَيتَ… لكِنْ هل لِمَقْدُورٍ مَحِيدْ؟!

 

 ***

في قَريَةٍ وادِعَةٍ، أَهلُها طَيِّبُونَ مُسالِمُونَ، وطَبِيعَتُها خَلَّابَةٌ، تُدعَى دارِشمِزِّين، تَرافَقْنا، مَدَى طُفُولَتِنا، وصِبانا الغَرِيرِ، فَكانَ نَقاءُ السَّرِيرَةِ رَفِيقَنا، والمَحَبَّةُ الصَّافِيَةُ حادِينا، والإِخلاصُ زادَنا الدَّائِم.

على دُرُوبِها البَيضاءِ الغَبْراءِ قَضَينا جَمِيلَ السُّوَيعاتِ، وعلى مُنحَدَراتِ شَربِينِها السَّاحِرَةِ قَطَفْنا أَطيَبَ السَّوانِحِ، مع رِفاقٍ أَترابِنا، ما شَغَلَتهُمُ هُمُومُ الحَياةِ المُضنِيَةِ، ولا غَمَّهُم هَمُّ غَدٍ مَجهُولٍ، ولا هاجِسُ مُستَقبَلٍ مُبْهَم.

هو الشَّاعِرُ الرَّقِيقُ، والصَّدِيقُ الصَّدُوقُ، ناجِي يُونُس، المُحتَفِي السَّاعَةَ بِكِتابِهِ الجَدِيدِ «عَيْن البُستان».

ولِسائِلٍ ما هي هذهِ العَيْنُ، أَقُول: هي مِن أَهَمِّ مَرابِعِ صِبانا، والمَعِينُ الَّذِي كانَ يَروِي قَريَتَنا بِأَطيَبِ المِياهِ يَومَ لَم تَكُن نِعْمَةُ الدَّولَةِ المالِكَةِ سَعِيدًا قد شَمَلَتنا. وهي، لِهذا الهائِمِ بِها، «حُبُّهُ الأَوَّل» (ص 23).

 ***

نَحنُ، اليَومَ، نَأتِي إِلى كِتابِهِ بِقَلبٍ تَغمُرُهُ الغِبطَةُ، على أَنَّنا لَن نَحمِلَ بَخُورًا نُحرِقُهُ على عَتَباتِهِ، كَما إِنَّنا لَن نَنتَضِي مِبْضَعًا سَنِينًا جُلُّ وَكْدِهِ اصطِيادُ العَثَرات. فَقَط، نَأتِي بِحُبِّنا، نُفَتِّشُ عن مَواطِنِ الجَمالِ فِيهِ، نَنشُرُها على المَلَأِ شَهادَةَ إِبْداع.

ولَن نُحابِي، كَما وَلَنْ نَتَخَلَّى عن قَناعَتِنا الشِّعرِيَّة.

صاحِبُنا يَكتُبُ ما يُسَمُّونَهُ «الشِّعْر المَنْثُور»، ومِن هُنا يَبدَأُ السُّؤَال: كَيفَ يَكُونُ شِعْرٍا ويُنثَر؟! وهل يُنثَرُ ويَظَلُّ شِعْرًا؟!

نَحنُ لا نَبخَسُ حَقَّ هذا الفَنِّ، ولكِنَّنا نَتَعامَلُ مَعَهُ على أَساسِ أَنَّهُ نَثْرٌ فَنِّيٌّ، يَسمُو بِقَدْرِ ما يُحَمِّلُهُ صاحِبُهُ مِن صُوَرٍ وخَيالٍ، وبِقَدْرِ ما تَكُونُ لُغَتُهُ سَلِيمَةً تُقِلُّ دَلالاتٍ عَمِيقَة.

ونَسأَلُ الَّذِينَ يَدعُونَهُم «حَداثَوِيِّين»، لِماذا الإِصرارُ على مُصادَرَةِ اسمِ «الشِّعْرِ» ولَصْقِهِ بِفَنٍّ آخَرَ قد يَتَفَوَّقُ عليهِ بِدَرَجات؟!

وهَل يَضِيرُ النَّثْرَ العالِيَ أَنْ يُقالَ عَنهُ نَثْر؟!

نَحنُ، شَخصِيًّا، يُسكِرُنا النَّثْرُ الجَيِّدُ الحَسَنُ المُبدَعُ أَكثَرَ مِمَّا يَفعَلُهُ بِنا زَمِيلُهُ الشِّعْر.

وهَل نَثْرُ أَمِين نَخْلَة، وجُبران خَلِيل جُبران، وأَنطُون قازان بِأَقَلَّ جَمالًا مِنَ الشِّعْر؟!

ونُذَكِّرُ بِما قالَهُ الشَّاعِرُ الكَبِيرُ مَحْمُود دَرْوِيش: «لَدَيَّ حَنِينٌ نَحْوَ النَّثْرِ، وأَتَمَنَّى أَنْ أَفشَلَ شِعْرِيًّا لأَتَّجِهَ إِلى النَّثْرِ، لِأَنَّنِي أُحِبُّهُ وأَنْحازُ إِلَيهِ، وأَعتَبِرُ أَنَّ فِيهِ أَحيانًا شِعْرِيَّةً مُتَحَقِّقَةً أَكثَرَ مِنَ الشِّعْرِ نَفسِه».

هي قَناعَتُنا، لَن نَفرِضَها على أَحَدٍ، ولَيسَ بِمَقدُورِنا. قد نَكُونُ على صَوابٍ، أَو بَعضَهُ، وقد نَكُونُ على شَطَط. فَإِنْ نَكُنْ أَخطَأْنا فَلَنا أَجْرٌ، وإِنْ لا فَلَنا أَجران(2)، وما عَلَينا إِلَّا الصِّدْق.

على أَنَّنا لَن نَعْذِلَ أَحَدًا بِناءً على رَأْيِهِ وقَناعَتِهِ، ونَحنُ، في حَلْبَةِ الأَدَبِ والشِّعْرِ سَنُصَفِّقُ لِلجَمالَ أَنَّى التَقَيناهُ، ومَهْما كانَ لَبُوسُهُ واسمُهُ، ونَترُكُ لِلتَّارِيخِ الحُكْمَ وهو خَيْرُ الحاكِمِين.

في المُحَصِّلَةِ، سَنَتَعامَلُ مع صَدِيقِنا بِمِقياسِهِ، وقُوفًا على قَناعاتِه!

 

  ***

هو يَمتَحُ مُعجَمَهُ مِن طَبِيعَةِ قَريَتِهِ، مِن خُضْرَتِها الَّتي تَكسُو تِلالَها والوِهادَ، مِن نَسائِمِها المُشبَعَةِ بَعَبَقِ الشَّربِينِ، مِن حَفِيفِ سَواقِيها المُرَنِّماتِ، مِن «عَيْن البُستان» أَثِيرَتِهِ ونَزِيلَةِ بالِهِ، ورافِدَةِ سُطُورِهِ بِالجَرْسِ الحَنُونِ، مِن أَلوانِها وقِرمِيدِها والغُيُومِ، مِن حُقُولِها وغِلالِها والحَصادِ، مِن دُرُوبِها وبَيادِرِها والبَرارِي، مِن فُصُولِها ورِياحِها وجُلَّنارِ الأُفُقِ، مِن زَهْرِ لَوْزِها وأَعنابِها والزَّنبَقِ، مِن زُوْفاها وسِلالِها والخَوابِي، مِن جِرارِها وقِندِيلِها والفَراشاتِ، مِن صَفصافِها وكُرُومِها وحَفافِي الصَّعْتَرِ، والقائِمَةُ تَطُول.

عِشْقُهُ الصَّيفَ بَيِّنٌ، وكَيفَ لا وقد ابتَنَى لَهُ صَوْمَعَةً دَعاها «العَرْبَة»، على مُنحَدَرٍ أَخضَرَ سَفْحُهُ يَغتَسِلُ بِــ «نَهْرِ العُصْفُورِ» في مَواسِمِ الشِّتاءِ والرَّبِيع. وهِنَّاكَ يَطِيبُ له المُكُوثُ، فَالعُزلَةُ طَيِّبَةٌ، والبِساطُ واسِع.

ولا يَنسَى «شِيْر قْدَيْح»، ولا يَدرِي ما هو إِلَّا نَحنُ، مَن قَضَينا أَروَعَ سَنَواتِ صِبانا حَولَ صُخُورِهِ البَيضاءِ المُتَدَرِّجَةِ، على أَنغامِ مِياهِهِ تَدَهدَهُ بِأُبَّهَةٍ وجَلالٍ، والرِّيحُ تَلعَبُ بِشُعُورِنا وأَردِيَتِنا، تَشُدُّنا إِلى الوَراءِ فَنُقاوِمُها بَينَ الضَّحِكِ والهُتاف والسَّعادَة. إِنَّهُ لِصَدِيقِنا «كَرْمُ العاشِقِين / الدَّافِقُ بالحَنِين / النَّاسِجُ في القُلُوبَ والعُيُون» (ص 70).

أَخبَرَ الجاحِظُ أَنَّهُ لَمَّا رَوَى لِفاخُورِيٍّ الأَبياتَ السِّينِيَّةَ الَّتي قالَها أَبُو نُواس: «تُدارُ عَلَينا الرَّاحُ في عَسجَدِيَّةٍ…»، إِنَّهُ أَظهَرَ إِعجابَهُ بِها بِقَولِهِ: «هذا شِعْرٌ لَو نُقِرَ لَطَنَّ». فَقالَ لَهُ الجاحِظُ: «إِنَّكَ تَتَحَدَّثُ بِلُغَةِ جِرارِكَ»(3).

وهذا ما جَرَى لِصاحِبِنا في كِتابَتِه. تَحَدَّثَ بِلُغَةِ عَناصِرِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي يَقضِي فِيها كُلَّ أَوقاتِ فَراغِهِ، فَهِي مُلهِمَتُهُ وتَسرِيَتُهُ وهَجسُهُ المُلِحّ!

  ***

يَكتُبُ صَدِيقُنا بِوَحيِ الحُبِّ، على قَولِ الشِّاعِرِ الياس أَبُو شَبَكَة(4). وهو عُذرِيُّ الهَوَى، لا تَجِدُ في وَجْدِهِ مُفرَداتِ الجَسَدِ المُغْوِي إِلَّا لِمامًا. يَغزِلُ بِالحَبِيبَةِ في خَفَرٍ، وقد يَجْرُؤُ أَبعَدَ مُختَبِئًا وَراءَ تَورِيَةٍ ذَكِيَّة. يَقُول: «حَقْلَةُ صَيْفٍ صَدْرُكِ / بَيْدَرُ غِلالِي / أَوَدُّ يا سَيِّدَتِي / أَن أَملَأَ سِلالِي». فَهَل انتَقَى لِصَدْرِها الصَّيفَ شَوْقًا إِلى رُمَّانِهِ أَم رُمَّانِ غَيرِه؟! أَلَا اغتَفِرْ لَنا ظَنَّنا إِنْ كُنَّا أَسَأناهُ، يا صَدِيقَنا الحَيِيَّ، فَما نَحنُ مِنَ المُرسَلِين…

وأَحيانًا نَراهُ يَقتَحِمُ بَعضَ المَحظُورِ، ويَتَنَهَّد: «أَجمَعُ أَغمارَ حُبِّي / وأُنَقِّي حِنطَةَ نَهْدَيكِ» (ص 26).

ونَحنُ نَعذُرُهُ فَهذا مِنَ الأَدامِ الَّذِي لا غِنًى عَنهُ على مَوائِدِ الشُّعَراء.

مُعجَمُ الحُبِّ الحِسِّيِّ ضامِرٌ في دِيوانِهِ، فهو يَقتَصِرُ على مِثلِ «ثَغرِها المُصَفَّى، وصَدرِها المُقَفَّى» (ص 76)، وإِطلالاتٍ نادِرَةٍ لِنَهدَينِ مُتَمَرِّدَينِ على غِلالَةٍ ضَنِينَة.

في المُجمَلِ، نَحنُ مَعَهُ في مُناخٍ شَفِيفٍ لُحمَتُهُ طَبِيعَةٌ صَبِيحَةٌ عَذراءَ، وسَداهُ أَحلامٌ، وخَيالاتٌ، وصُداحُ حَساسِين.

تَدُورُ لُعبَةُ صاحِبِنا على مِحوَرَين: المَرأَةُ والطَّبِيعَة. وقد تَشابَكَت خُيُوطُهُما حَتَّى يَصعُبُ الفَصْلُ بَينَهُما، فهو يُخاطِبُ المَرأَةَ بِأَلفاظِ الطَّبِيعَةِ، ويُدَلِّلُ الطَّبِيعَةَ كَأَنَّها الحَبِيبُ السَّاكِنُ في شَغافِ القَلب. فَنَرَى الحَبِيبَةَ – مِحْوَرَ بَثِّهِ، ومالِئَةَ كِيانِهِ – «كَثِيرَةَ الأَشجارِ / كَثِيرَةَ الغُيُومِ» (ص 34)، و«غَيمَةَ صَيْفٍ» (ص 16)، «تَسكُبُ إِبرِيقَها/ كَي تَشرَبَ الحُقُول»؟! (ص 33).

كَما تَوَحَّدَ حُبَّاهُما في بَيانِهِ، فَباتَ لا يُفَرِّقُ بَينَهُما، ويَهَبُهُما العِشقَ بِالقِسْط.

ونَجِدُهُ، أَحيانًا، مَحرُومًا مِنَ التَّنَعُّمِ بِالحَبِيبَةِ، فَيَقُول: «غارِقَةٌ في القَلبِ/ هانِئًا أَمتَلِئُ / أَنتِ لِي أَنكَسِرُ / لا ماءَ لِي والنَّبْعُ لِي / والنَّهْرُ لِي والصَّيفُ لِي / والزَّهْرُ والسَّواقِي» (ص 17). وقَلَّما تَرافَقَ العَطاءُ الأَدَبِيُّ مع حُبٍّ أَدرَكَ مُبتَغاه.

وصاحِبُنا، الَّذِي يَقُولُ عَن نَفسِه: «أَنا فَتَى الجِبالِ / أَقطِفُ الغِلالَ / أَصنَعُ خَمْرِي لَكِ / أُقَصِّبُ حِجارَةَ أَشواقِي / أَبتَنِي قَصْرًا لَكِ / مِن وَرَقِ النَّسِيم» (ص 58)، أَلَا َيستَحِقُّ أَن يَكُونَ فارِسَ أَحلامِ هذه المَعشُوقَةِ الغافِلَةِ عَن هذهِ العَطايا، بِحَسَبِ ما يُستَشَفُّ مِن بَوْحِهِ المُتَّقِد؟! فَهَل هو قَدَرُ المُبدِعِينَ في الحُبّ؟! يَبسُطُونَ الصَّبابَةَ في قَراطِيسِهِم، وقُلُوبُهُم تَكوِيها اللَّواعِج.

هكذا، ويَتَرَجَّحُ فارِسُنا في الحُبِّ بَينَ مَدٍّ وجَزْر. مَدٍّ يُفعِمُهُ بِالهَناءَةِ وإِن عَزَّ فِيهِ الوِصالُ، وجَزْرٍ يُقَوِّضُهُ بِالأَسَى والحَبِيبُ طَوْعُ عِناق. وهذا مِن بَدِيهِيَّاتِ قامُوسِ العِشْق.

ولَطالَما كانَ الحِرمانُ عِند المُتَيَّمِينَ الشُّعراءِ نِعْمَةً على الكِتابَةِ، فَالشِّبَعُ في الحُبِّ يَقتُلُ الحُبَّ، فَيَهمُدُ القَلَمُ، ويَضمُرُ الخَيالُ، ويَختَفِي الإِبداع. نَعَم، إِنَّ «لَها النَّبْعَ والكُرُومَ ومَواعِدَ اللُّقْيا / ولِي أَنا الصَّقِيعُ ومَوانِئُ الفِراق» (ص 19).

حُبُّ صاحِبِنا نَسِيجٌ مِن أُمنِياتٍ لا تُفضِي إِلى القِبْلَةِ المُشتَهاة: «لا فَرْقَ بَينَ الدَّرْبِ والسَّراب» (ص 21). هي سَيِّدَةُ الحُرُوفِ، إِذًا هي المُلهِمَةُ لِمَقُولِهِ، الهاجِعَةُ في مَطاوِي حُرُوفِهِ، الحاضِنَةُ جَواه: «في قَمِيصِ اللَّونِ بَينَ الهَمَسات» (ص21)!

***

يَتَضَمَّنُ الدِّيوانُ بَعضُ شِعْرٍ عَمُودِيٍّ.

وأَنا، مِن مَحَبَّتِي الخالِصَةِ، أَقُولُ لَهُ: أَنتَ تَستَهوِينِي هُناكَ، في شِعْرِكَ النَّثرِيِّ، وفي مَقطُوعاتِكَ الرَّقِيقَةِ العَذبَةِ النَّاضِحَةِ بِالوِجدانِ، والمُكتَنِزَةِ بِالصُّوَرِ الزَّاهِيَة. فَاعذُرْنِي، فَلَن أَكُونَ إِلَّا صادِقًا مَعَك، مُنسَجِمًا مع أَفكارِي.

على أَنَّنِي، قَطْعًا، مع القَول: «إِنَّ الوَزْنَ غَيرُ كافٍ لِلدَّلالَةِ على انتِماءِ النَّصِّ لِلشِّعْرِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النُّصُوصِ مَوزُونَةٌ مُقَفَّاةٌ، لكِنَّها لَيسَت شِعْرًا»(5).

وصاحِبُنا، وإِن ابتَعَدَ عن الأَوزانِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلى الإِيقاعِ، أَحيانًا، مُدرِكًا أَنَّ لِلمُوسِيقَى مَركَزًا رَئِيسًا في العَمَلِيَّةِ الشِّعرِيَّة. فَها مَقطُوعَتُهُ «عَينُنا البُستان» (ص23) تَتَسَربَلُ بِلَحْنٍ يَزِيدُها رَوْنَقًا، ويُقَرِّبُها مِنَ الذَّوائِقِ والأَسماع. وفي بَعضِ مُقَطَّعاتِهِ الَّتِي تَفتَقِرُ إِلى المُوسِيقَى شِعرِيَّةٌ خَفِيَّةٌ تُعَوِّضُها مِنَ الإِيقاعِ بِدَلالاتِ الأَلفاظِ وجَمالِيَّتِها الَّتِي تُثِيرُ وَحْيًا يُرسِلُ إِلى مَكانٍ دافِئٍ في الذَّاكِرَة.

 

 ***

صَدِيقِي

شِعْرُكَ رَقِيقٌ في لُغَةٍ سَهلَةٍ وتَراكِيبَ لا تَدخُلُها الصَّنْعَةُ، مُفْعَمٌ بِالهَوَى، مُزَيَّنٌ بِمَشهَدِيَّاتٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ، لا يَشكُو خُشنَةً ولا استِبهامَ لَفْظٍ، تِلقائِيٌّ لَهَجَ بِهِ القَلبُ فَتَلَقَّاهُ القَلَمُ وَرَسَمَهُ على هَيُولاهُ، وكُلُّ هذا يُحسَبُ لَكَ لا عَلَيك.

حَسْبِيَ مِنكَ أَنَّكَ أَخَذتَنِي، على جَناحِ الحُلْمِ، في إِغماضَةٍ لَذِيذَةٍ لِلأَجفانِ، إِلى مَدارِجِ طُفُولَتِنا ويَفْعِنا، إِلى أَرضٍ كَم أَكَلَت مِن خُطانا ودَمَغَتنا بِجَمالِها البِكْرِ، وإِلى سُفُوحٍ تَرَبَّعْنا على عُشبِها الطَّرِيِّ، وإِلى يَنابِيعَ وسَواقٍ ما تَزالُ سَقسَقاتُها في آذانِنا تُدَغدِغُنا كُلَّما غَذَذْنا في السِّنِينَ، وأَبعَدَتنا مَشاغِلُنا عن أَدِيمِها الحَبِيب.

وحَسْبُكَ أَنتَ مِنَ الشِّعْرِ أَنَّكَ رَفَدتَهُ بِمَقطُوعاتٍ ناعِمَةٍ، نَسِيجُها وَرَقُ الشَّجَرِ، ونَوْرُ الحَفافِي، ومَطارِفُ الوَعْر.

سَلِمتَ، ولا تَدَعَنَّ قَلَمَكَ إلى كَسَلٍ، إِنَّهُ رَقِيقٌ قد يَهُدُّهُ الغِياب!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ديوان “عين البستان” للشاعر ناجي يونس، صدر عن منشورات “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي”، ويتضمن مجموعة من القصائد في الطبيعة والأرض والوطن والحُبّ وفي مدينتي بيروت وطرابلس.

(1): عَيْنُ البُستان: عَيْنُ ماءٍ في قَريَةِ الشَّاعِرِ دارشمِزِّين

(2): «مَن أَفتَى فَأَصابَ فَلَهُ أَجرانِ، وَمَن أَفتَى فَأَخطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ واحِد»   (مِنَ التُّراثِ الإِسلامِيّ)

(3): (مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 5، «على الطَّائِر»، ص 274)

(4): «إِنِّي رَجُلٌ يَكتُبُ بِوَحيِ الحُبِّ»   (الياس أَبُو شَبَكَة 1903 – 1947)

(5): (عَبدَالله شرَيْق، «في شِعرِيَّةِ قَصِيدَةِ النَّثْر»، ط 1، دِمَشْق، دارُ الحَصادِ لِلنَّشْرِ والتَّوزِيع،

      ص 16.25)

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *