سجلوا عندكم

نبيه أبو الحسن… أَخوَت عاقِل

Views: 176

 الدكتور جورج شبلي

نبيه أبو الحسن ” أَخوَت ” وليس مجنوناً…

إنّ الجُنون، بالمفهوم السّيكولوجي، هو تَغييبٌ للعقل، وتعطيلٌ للوَعي، وتمكينٌ للذُّهول من السّلوك، ومخالفةٌ لِما رُوِّضَ عليه النّاس، واعتادوه. أمّا ” الخْوات “، كما يتبدّى مع نبيه أبو الحسن، فهو ثورةٌ للتّغيير، ومحاولةٌ لإيقاظ ما غَفا من عزّةِ النّفس، وإيثارٌ للحقيقة، ولمواسم الحريّة.

نبيه أبو الحسن، كان ذاك الظّريفَ الذي أَغرانا بالاعتزازِ به، لبنانيّاً لم يخرجْ عن عُرفِ الوطن، وعن وجعِ النّاس، فكان المتمرّدَ النّاقمَ على المفروضِ، والسّائدِ، وقد جُبِلَ بِتَوقٍ الى هَدمِ البالي الذي كرَّسَه بعضُهم على أنّه مقدَّس. وهو السَّريعُ الخاطر، والصّافي الذّهن، الذي لم يكن يرغبُ في نشرِ قناعاتِه، وتوجّهاتِهِ، برِفقٍ، لكنّه كان قاسياً، أرادَ أن يخرقَ ثَوبَ النّاس القانعين في غفلةٍ عن خَفِيٍّ يقودُهم الى الهاوية، وأن يدهنَهم بزيتِ المناعة ليُعيدوا صياغةَ أشخاصهم في سَربِ مجتمعٍ متحرِّر.

 

نبيه أبو الحسن ” الأَخوت “، لم يكن مُصاباً بالانفصام، وبالغربةِ عن الواقع، لكنّه كان العاقلَ بامتياز، يرى مُجرياتِ الحوادثِ والمسلكيّاتِ، بشكلٍ صحيحٍ ودقيق، وأيضاً، قَلِق. وذلك ما أَجَّجَ في ذاتِهِ ثورةً جريئةً لم تنفجرْ في الوقتِ الضّائع، وهي التي حَضَّتِ النّاسَ على المطالبةِ بحقِّهم بالحياةِ الحرّة، ونَبذِ الخضوعِ والقهر، وعلى اعتبارِ حريّتِهم، تلك، لحظةَ مصالحةٍ مع الوطنِ، ومع كرامةِ العَيش.

نبيه أبو الحسن الذي لم يكنْ، يوماً، مملوكاً، هو مفطورٌ على المواجهة. ولمّا أُوتيَ حظّاً واسعاً من التأمّلِ الدّقيقِ في حياةِ النّاس، والوطن، حظّاً انسكَبَ في نفسه، فقد نسجَ فَنّاً نقديّاً جاذِباً لتنقشعَ البُقَعُ السّوداءُ عن الأَبصار، ولتتحوَّلَ الهِمَمُ المكدودةُ التي استعذَبَت طعمَ الرّماد، انقلاباً على المعهودِ، وعلى القيودِ المفروضة، للخروجِ من جِلدِ الأفعى، سَعياً واعياً لموكبِ حياةٍ مختلفة.

لقد آمنَ نبيه ابو الحسن بأنّ الحريّةَ هي أَصلٌ حين تُدرَسُ درجةُ التمدّنِ عندَ الشّعوب، وبأنّ نبراتِها هي من مُعَلِّمي عَمارِ الحضارة. لقد حُبِلَ بِنبيه أبو الحسن مُكَوَّراً بغشاءِ الحريّة، لذلك، كان أَثقَلَ حِملاً من غيرِه، ووُلِدَ مُلتَهِباً بِلَظاها، متلَبِّساً نبضاتِها، تنتابُهُ أعراضُها في وَعيِهِ، وفي لاوَعيِه، فما كان بينَهُ وبين نضالِهِ لأجلِها سَدّ، واستناداً الى مُعطاها، استعرضَ مشاهدَ المجتمع، وعاينَ القسوةَ، والهوانَ، والذلّ، والكَدَر، والضّيق، فلم يقفْ منها جليديَّ الصّوت، أو خائفاً من مُمتَنَع، فصرخ، فاعتبرَه مُدَّعو الوقارِ المُزَيَّفِ، فَظّأً يُطلِقُ هفواتٍ صاخبة، في حين شَعِرَ به الأصحّاءُ صرخةً تُميطُ اللِّثامَ عن الفَرقِ بين العاجِ والتّراب.

نبيه أبو الحسن وعليا نمري

 

لقد رفضَ نبيه أبو الحسن أن يخنقَ صوتَه، وأن يؤرِّخَ لعصرِ إبليس، وقد أُتيحَت له فُرَصٌ عديدة، فيها الفائدةُ والنَّعيمُ، لكنّه مارسَ الأساليبَ الصّارخة، وأطلقَ المواقفَ الصّريحةَ اللّاذعةَ التي لا تناسِبُ المُنتَفِخَةَ أُنوفُهم، فكتبَ وصيَّتَه…

هذا ال ” الجِحا “، ذكيٌّ ساخر، صاحبُ لسانٍ سليط، ومُتَكَلِّفٌ الحُمْقَ الكوميديَّ للإضحاك الهادف، كان فَطِناً، قاربَ حالةَ القَحطِ في الوطن، والأمّة، بضحكةٍ تُغَلِّفُ نقداً قساوتُهُ تُشبِهُ انكسارَ قلوبِ الشّعوب، وبحلاوةِ نكتةٍ تُبكي خلفيّتُها انسحاقَ الأفئدة. جِحا ابو الحسن كان جريئاً حيثُ لا يُقدِمُ غيرُهُ، فعندما اغبرَّ وجهُ المجتمع، وبكى الوطن، وَجَّهَ البوصلةَ صوبَ الحقيقةِ، وأصاب. ما أَحوجَنا، اليومَ، الى جِحا جديد…. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *