سجلوا عندكم

سرديةُ الهُويّة في رواية “الحزن الوسيم” لـ تحسين كرمياني

Views: 211

إبراهيم رسول

يؤسسُ لنا الرّوائيّ تحسين كرمياني مدينة روائية كبيرة ولها هُويّة يرسم معالمها ويجعلها أقرب إلى المتلقي، فهذه الصورة المُتخيلة التي يرسمها هي عين واقعه الذي عكس تصويره على الورق، فالكاتبُ أبصر هذه المدنية وعايشها وتفاعل مع أحداثها وأعاد خلقها أدبيًّا. الهُويّةُ التي يؤسسها الكاتب هي الهُويّة الكُردية التي تعيش في مناطق محددة معروفة، إلّا أنَّ السلطةَ لها مواقف سلبية معها. الكاتبُ يعملُ على إبرازِ هذه المظلومية التي عانت منها الأمة الكردية (كما يصفها الكاتب).

 سرديّة الهُويّة هو العنوانُ الذي ينطبقُ على هذه الرِّواية، التي كتبتْ عن هُويّةٍ لمْ تأخذْ منزلتها في السرد العربي أو العالمي، فهي معنيّةٌ بإبراز الهُويّة الكُردية بصورةٍ تقرّبها إلى الآخر على اختلافِ مستوياتهِ المعرّفية عن هذه الفئة من البشر، التي تسكن في مناطق محددة في بعض البلدانِ التي منها العراق.

 تُظهرُ الرّواية الكُرد كشعب طيب وله طبيعة ونمط خاص في التعامل مع السلطة المركزية.

 تبدأ الرواية بحادثةٍ ، وتعتبرُ البوابةُ الأولى لدخول عالم الرّواية، فالدخولُ عبر الحدث يشوّق أكثر من الدخولِ عبر الوصف، فالحدثُ يشد القارئ ويأخذه ويرميه في آتون الأحداث التي بدأت مُتصاعدة. إنَّ طريقة المبدع تحسين كرمياني في بناءِ الحدث رائعة وتعتمد على قدرة تصويرية بديعة، هذه القدرة وُظِفتْ بصورةٍ تخيّلية، مما جعل القارئ يُشارك المبدع التخيّل، فأنت تقرأ الحدث بصورةٍ تشويقيةٍ، وتدخل ذرة صراع الحبكة من أوّل الرّواية، ففي الصفحةِ الأولى، تبدو لكَ طبيعة السلطة، ويبدو لك الشعب، وتبدو لك الأدوات التي تستعملها السلطة مع الشعب، وتبدو لك العقلية التي تُفكر بها السلطة في طريقة ِ فرض قوّتها ونفوذها على جميع أبناء الشعب، إذنْ، هذه التقنية هي سردٌ غير نمطيّ، سردٌ بديعٌ، ووصفٌ رائعٌ للحدث الذي تمت صياغته في خيال الكاتب صياغة تبعث إلى الدّهشة والتقبل الإيجابيّ.

 

عينُ الإبداع وروحه

إنَّ الرّوايةَ من حيث بنيتها لا تقف عند حدّ إبراز هُويّة وتقديمها لفئة سكانية من سُكانِ الأرضِ بقدر ما هي تُحاولُ أنْ تشتغلَ على المهمش والمُهمل وإعادةِ تقديمه ِ بقالبٍ سرديٍ، هذه الآليةُ هي عينُ الإبداع وروحه، فأنت تبحث عن أشياءَ تحتاجُ إلى خلقٍ وتقديمٍ جديدينِ، لهذا فالهُويّة التي أبرزتها الرِّواية في هذه القدرة التصويرية الجميلة، مكّنت القارئ من أنْ يأخذَ فكرة شاملة عامّة عن هذه الفئة البشرية. نعم، في هذه الرِّواية ستقرأ غير الشائع وغير المُستهلك، وستقرأ سرديةً جديدة من حيث ثيمتها، فالكُرد لهم رؤية في السياسة والحكمِ.

يُقدمُ الكاتب البداية بدخولهِ المُباشرِ إلى الحدث، وهو حادثة مقتل الراعي الذي اُتهمَ بالجاسوسية، وتمَ قتله بحكمٍ اِرتجاليٍّ مُباشر من الآمر، الذي أمر الجنود بتنفيذ المهمة، هذا الحكمُ السريع الذي أمر به الضابط “حردان”، الشخص الانتهازي الذي يمثّلُ جبروت السلطة وتعنتها، والراعي الذي يمثل الهُويّة الكُردية المسالمة، التي تُريد أنْ تُثبتَ هُويّـتها بالطريقةِ المُسالمةِ التي تجعل السلطات تعترف بها، فهذا الراعي، الذي قتل على الظنّ، يمثّلُ لا شرعية السلطة بتعاملها مع الهُويّات الثانوية. 

كان الانتقامُ الإلهي من الضباط حردان بذاتِ التهمةِ وبذاتِ الطريقة التي قتل بها الراعي البريء، هذه إشارةٌ إلى حكمةٍ إلهيةٍ.

 المحاولاتُ التي بثّها السرد من خلالِ عرضهِ لمسيرةِ الحياة التي عاشتها الشخصيات، تجد أنَّها شخصيات تبحث لها عن اِعترافٍ بوجود! ولعلَّ الإشاراتَ كثيرة التي جعلت من تصنيفنا لهذه الرِّواية أنّها روايةُ هُويّة، منها العنوان الرئيس للرواية الذي اقتبسَ من قولٍ لشاعرِ الأمة الكُردية شيركوبي كه سي، إشارة الكاتب إلى مفردةِ “الأمة” ليس اِعتباطيًا أو مفردة عشوائية، هي مفردة تحملُ دلالتها بوضوح ومعنىً مُباشرٍ، فالأمةُ غير الشعب وغير المجتمع، فالكاتبُ يستعملُ المفردات ويُطلقها ليس عبثًا أو عشوائيًا!

 في هذه الرواية يُفاجئنا السارد بمفاجآت، منها حينما عرفنا أنَّ الشخصية التي تُدعى “دلسوز” حينما سألت عن أبيها ولمرّةٍ واحدةٍ، فرأت أمّها تبكي، فكانَ الأبُ هو الراعي الذي قٌتِلَ في أوّلِ أحداثِ الرِّواية.

 يستعملُ الكاتبُ مفرداته اِستعمالًا ذكيًّا، العداءُ الذي تنطقهُ الشخصيّة عبر مفردة “الحكومة” وليس مع قومية! وهنا يذوب الصراعُ الوهمي الذي تخلقه السُلطات مع هذه الهُويّات الثانوية. الأديبُ إنسانٌ صانعٌ للجمالِ، لهذا تجيء المفردات موظفة توظيفًا صحيحًا.

 

محور العمل الإبداعيّ

الملاحظُ على هذه السرديات التي تعنى بالهُويّة، هو المحاولةُ لإثباتِ وجودها الفعليّ! فهي موجودةٌ كجزء أصيل من نسيج المجموع السكاني للشعب، فالكاتبُ يجب أنْ يجعلَ من وجودها الأصيل كضرورة، فالسردُ الدفاعيُّ عن حضورها الفعلي يُعد مثلبة كبيرة! إلّا أنَّ هذه السردية في هذه الرواية، تُقدم الهُويّة الكُردية على أنّها جزءٌ أصيلٌ بلْ هي أمةٌ! سردية الهُويّة في رواية الحزن الوسيم، ينطبقُ تمام التطابق مع الحدث الوجودي المتمثل بفاعليةِ الهُويّة المُراد الاعتراف بها والتعايش معها وفق القانون، الذي يَنظر للكلِّ نظرته للجزء ويُراعي الجميع مراعاة لا تسلب حقّ أحدٍ ما، أنْ تكونَ الهُويّة هي محور العمل الإبداعيّ فهذا يعني في ضمنِ ما يعنيه، أنَّها تعيشُ اغترابا عن عالمها الذي تتعايش معه، لأنَّ التعايش وفق قانون يُنظم حياة الجميع باِشتراطاتهِ وقيودهِ سيكفل حق الجميع ويحترم وجودهم، لكن ما أبرزته الرِّواية في مضمون خِطابها العام، أنَّها أبرزت الكُرد على أنَّهم أمةٌ مضطهدة ، والمظلومية التي بثّها الخطاب السرديّ واضحة، فالهُويّة بوصفها موضوعًا سرديًّا.

نحن نقرأ في هذه الرِّواية أنَّها لا تعتمدُ الصراع والتقاطع مع الآخر، لهذا تجيء الكلمات المتضادة باردة وغير متشنجة ولا يوجد فيها كلمة تدعو للعنفِ والكراهية، هذه بعض الصفات التي تميزت فيها الرِّواية.

إنَّ المعرّفةَ في عالمِ الرِّواية، يكونُ ضروريًا للغايةِ، فأنت لا تستطيع أنْ تكتبَ عمّا تجهله، فالمعرّفة تُعطي للرّوايةِ قيمة عليمة إضافة إلى قيمتها الفنّية، لهذا فالحديثُ عن الهّويّة لأمة ما أو لطائفة ما أو لشعبٍ ما أو لأيِ شيء يحتاج إلى معرّفة موّسعة كبيرة وإلمام كامل أو أقرب إلى الكمال في الموضوع، لهذا نجد أنَّ معرفةَ الكاتب في الهُويّة والأمة الكُردية، هي معرفةُ العارف الذي يكتبُ عن علمٍ بالشيء ودِراية. 

إن الرِّوايةَ تتحدث عن الكُرد ، فجاءَ السرد كلّه عنهم ، بلغتهم وبتفكيرهم وبنمط عيشهم، فهذا العملُ الإبداعي يعبّر عنهم تعبّيرًا صريحًا. المُشتركاتُ التي تجمع الهُويّة، لهذا فالرِّوايةُ قامَ خطابها العام على كُلِّ ما يخصّ الهُويّة، فالتجاربُ الحياتية الشخصية هي إبرازٌ لهُويّتهم الكُردية التي بدأت بمقتلِ الراعي الحدث الأوّل حتَّى نهاية حلّ العقدة بصورةٍ تدريجيةٍ، فهذا العملُ الفنّي يدخلُ في تخصص سرديات الهُويّة بمعناها الخاصّ الذي يشتغل عليه من أوّلِ العملِ حتَّى نهايتهِ.

 

اِشتغلتِ الرِّواية بمضمونها العام على فكرةٍ واقعيةٍ، لكنها تحتاجُ أنْ يكتبَ عنها من يعبّر عنها وهو عارفٌ بها. وجهة النظر التي سلّطت الضوء على هذه الفئة من السكان الذين يعيشون مدينة السليمانية في شمال العراقِ هي الوجهة التي تُعيد خلق لا اِنعكاس الصورة فحسب.

هذه الرِّواية تعتمد على توظيف المظلومية، التي كثيمة رئيسة في العملِ الإبداعي، فتجعل منه بوّابة لجذب القارئ المختلف والنوّعي والعادي، الجميع سيتفاعل معها على أنَّها ذات جنبة إنسانية تستحقّ التأمّل والغوص في معاني دِلالتها غير المُباشر، نسجّل في هذه الحكاية الكبيرة حكاية فئة كبيرة من السُكان الذين عاشوا ويلات التعامل السيء من قبل السلطة في احتوائهم وجعلهم من أولويات عناية الدولة ورعايتها، هذه السردية الهُويّاتية تصبّ في الأعمال الإنسانية التي تؤسس لقومية ما، وتجعلها محور الفكر الذوق، لهذا تبدو الرِّواية على أنَّها تدافعُ والأحرى أنَّها تكشف ما تُريد إيصاله وتبيّنه إلى المتلقي بما يخص القومية الكُوردية.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *