مينرڤا… وجعُ الجذور ووَلَهُ النّور
الدكتور جورج شبلي
قيلَ إنّ للجنّةِ بابًا حدودُهُ مغالبةُ الأهواء، ومفتاحُهُ الإيمانُ المطلَقُ الذي يقعُ من نفسِ الجنّةِ موقعَ السّحر، وله، وحدَه، تُشَرِّعُ ساحتَها. وهذا الإيمانُ، بالذّات، كان مسقطَ رأسِ مينرڤا، ونَسَبَها، جُرِّعَت من فيضِ جداولِهِ، فشبَّ في ربوعِ حياتِها لَهَفٌ لله، وجَرَت، بين يدَيها، غلّةُ محبّتِه.
مع الله، وقعَ حبُّ مينرڤا في عاطفتَين، إحداهما إضرامُ قوّةِ شَغَفِها به، وهو شغفٌ بلغَ أجزاءَ الرّوح، حيثُ أنّها لو سُئِلَتْ عن تحديدِ عُلُوِّ مكانةِ هذا الشَّغَف، لعَجزَت عجزًا مُبينًا. وثانيتُهما صفاءُ هذا الحبِّ في فواضلِهِ السخيّةِ التي كانت، لها، مَنفذَ شعاعٍ للمعرفة، ومَعينًا لا ينضبُ ولا يَغيض، نَفعُهُ كثيرٌ، حيثُ أنّ مينرڤا عقدَت قرانَها عليه، فكان لها التحامٌ مع البراعةِ في القفزِ الى النّضج.
ليس غريبًا أن يتحوّلَ بعضُ عمرِ الإنسان الى معاناةٍ ترفعُه فوقَ خشبةٍ من لحمِه ودمِه، والغريبُ أن يبقى هذا الإنسانُ حيًّا، بعد معاناةِ الصَّلب، متغلِّبًا، بقوّةِ الرّوح، على نظامِ الزّمنِ السَفّاك، ومسكونًا برغبةٍ في تخليدِ معاناتِه، بالكتابة. هذه هي حالُ مينرڤا المؤمنة في القمط، وإيمانُها طاقةٌ صهرَتها مبدِعةً، فتيقَّنَت بأنه لا يليقُ بإنسانِها أن يُهزَمَ، ويتمرّغَ أمامَ أيِّ إحباط.
لقد رسمَت مينرڤا حياتَها بآلامِها، وحياتُها سَفرٌ شاقّ، لكنّها تركَت ذاتَها تنتفضُ على ذاتِها، في معركةٍ حرَّرَتها من دائرةِ الوجع، وأعتقَتها من سجنِ الوقتِ حيثُ ظلمةُ العالَم، فارتقَت، بالإرادةِ والإيمان، الى حالةٍ من الوَعيِ، والتيقّظ، والمحبّةِ المُخلِّصة، لتبدأَ الى الآتي، وبلا انشغالٍ بما مضى، لتتلاشى، بذلك، مرحلةٌ حيثُ التّجربةُ مُرّة.

لم أَجِدْ في ” وجع الجذور ووله النّور”، صراعًا بين التّرابِ والنّسيم، بل مبضعًا شرعَ في جراحةِ حياةٍ لتقولَ أكثر، وتفعلَ أكثر، وتلبسَ عباءةً تختلفُ عن نسيجِ السّالِفِ من العمر، وكأنّ مينرڤا، بذلك، تتفلَّتُ من خُطَطِ الزّمانِ والمكان المفروضة، وتحضّرُ لثورةٍ ترسمُ، لها، بناءً جديدًا، ليس في دِفّاتِهِ صدًى لِما فات. وهكذا، تنقلُ إنسانَها العتيقَ المعزولَ عن استقرارِ النّفس، الى إنسانٍ جديدٍ ذي روحيّةٍ جديدة، وتطلّعٍ فلسفيٍّ يفتحُ، له، أبعادًا تُظلِّلُ أغراضَ الوجودِ الإنسانيّ، ورسالتَه الكونيّة، وصولًا الى الحقيقة.
في السّيرة، اتّجاهٌ حِكَمِيٌّ أَسعَفَ في ترنيمتِهِ ما طُوِيَ من نُسَخِ الألم، والتلهّف، في ذاتِ مينرڤا، هذه الذّات التي ألبسَتها الأيامُ كَدَرًا، لكنّها لم تعجزْ عن نَزعِ ما أُلبِسَت. وبالرَّغم من أنّ دنيا مينرڤا كانت محبَّرةً بريشةِ الخُطوب، ولا تنطوي إلّا على نفورٍ وبكاء، غيرَ أنّ المؤمنةَ المُلتصِقَةَ بواجبِ الوجودِ، لم تستسلمْ للحواصلِ السّالبةِ التي زَحمَت منكبَها، بل واجهَت، وغيَّرَت، ولم تُسايِرْ نسيب عريضة في قولِه : ” سيّانَ أن تُصغي للنُّصحِ أو تُغضي / يا نفسُ، فالآتي مثلُ الذي يمضي “.
لقد أرادَت مينرڤا، بِبَوحِها عن سيرتِها في كتاب، أن تحقّقَ عزاءَها الوحيد، وقُدِّرَ لها قويّانِ في الإيمانِ، مثلها، كما في الإبداع، رسولا حياةٍ لم يتركا تجربتَها تُنازعُ في صقيعِ النّسيان، هما الدكتور ربيعة أبي فاضل الذي نقلَ النصَّ من الفرنسيّةِ الى العربيّة، بحِبرِ الأحاسيس، وهو الأديبُ الوَنِسُ، صفاءً وخَصبًا وفرحًا، والسيدة ميراي شحاده حدّاد التي وُلِدَت في عِقارِ الجَمال، وكانت أخلاقُها مؤتمرَ رَونَق، وروائعُها لَمْعَ عِقدٍ منظوم، انبرَت لنَقلِ حلمِ مينرڤا من القوّةِ الى الفِعل، بطباعةِ مؤلّفِها ونَشره. وهكذا، قُدِّرَ لعاشقةِ ذخائرِ الإيمان، بصوفيّةٍ مترفِّعةٍ لها، فيها، عدَّةٌ وافرة، ألّا يمتدَّ الظّلامُ في أيّامها، فيتسنّى لها أن تشربَ صفوةَ الحياةِ الآهلةِ بصنوفِ الطمأنينةِ والفرح.