هاشم محمود وجدلية القبح والجمال في “حارس الجسد”

Views: 1549

محمود سمره

يخلط كثيرٌ من المتلقين بين المبنى والمعنى، ويجهل كثيرٌ منهم؛ وخصوصًا الانطباعيين منهم، أن المبنى لا نختلف على أُسسه وقواعده، بينما نختلف عند المعنى على أساس الذائقة الأدبية والانطباعات الفردية.

في عملنا هذا “المجموعة القصصية حارس الجسد”، فتَّشْتُ عن أركان القصة القصيرة؛ لكي أتناول المبنى حكمًا، فوجدتُ الكاتبَ حريصًا من أولها إلى آخرها على عنصر القصة القصيرة الأهم؛ ألا وهو الافتتاحية التشويقية؛ حيث يُعدُّ مفتاح نجاح القصة القصيرة في افتتاحيتها، فقد يُسقط البعض هذا العنصر الأساسي، فلو فعل لهبطت قيمة قصته، فمرورًا بقصص العمل من “وقود امرأة”، و”حارس الجسد”، و”سكينة الخطيئة”، وصولًا إلى آخر قصة في العمل “ضَرة غير نافعة”، وجدتُ تلك المقدمة المشوقة المطلوبة.

وكان الصراع جليًّا داخل كل قصة من المجموعة القصصية، ونمت بها ذروةُ الأحداث، وانفراجتها، وخُتمت القصص بخاتمة تفاوتت بين القوة والضعف.

تواجدت الشخصيات بوضوحٍ، ما بين شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية، مُلتحمة في نسيج واحد؛ لخدمة النص، ولتحقيق وحدة الأثر عند المتلقي.

وكذلك الحوار، لتعدد الأصوات داخل النص، من غير إسهابٍ ممل، أو افتقار مُنقص.

ووجدتُ اللغة جزلة بسيطة مُباشرة، أبعد ما يكون عن التعقيد أو الغموض، ومُترفِّعَة عن الركاكة والعَوَزِ.

فمن الناحية البنيوية اجتازت المجموعة القصصية اختبار الأركان والمبنى، والذي يؤهلها أن تحصل على لقب القصة القصيرة بقلم أديب باستحقاق.

وانتقلت إلى الجانب الأكثر جدلًا، والأرحب قبولًا ونفورًا، ألا وهو المضمون، الحكاية والمغزى، وعلينا أن نعترف في بداية الأمر، أن الانطباع المبني على أُسس فردية قد يرفعُ أو يحطُّ من عملٍ أدبي ما، من الناحية الذوقية، مع حفظِ ما للعمل من قدرة وبراعة من الناحية النظرية والبناءية.

راح القاصُّ يقصُّ علينا مجموعة من القصص، حكاياتها عن المرأة، ما بين ضحية أو مجرمة، ويغزل على مِغزلة الحكايات، أحداثًا تستدعي استنكارًا، أو تعاطفًا.

فكان الاستنكار والنفور واضحًا في حكايات المرأة اللعوب كما في (وقود امرأة، وحارس الجسد، والاستخلاص، وضَرة غير نافعة).

وكان التعاطف أو الشفقة في (سكينة الخطيئة، والجنس الحرام، ولذة الطابق العلوي، وعُرس، وبسبب طفلي، وزيف الحقيقة، وحيرة، ونقطة نظام، والمائدة).

وتعددت ردود الفعل لتعدد الشخصيات ما بين استياء وشفقة في (العهد الحرام، ونصف شرف، والغرفة).

رأيتُ في القصة القصيرة التي كانت بطلتها تستدعي الاستياء منها نفورًا وابتعادًا؛ بل ورفضًا في بعض الأحيان لأن أقرأ قصة مثلها.

ووجدتُ في القصة التي تنال منَّا الشفقةَ حرصًا على نشر مثل تلك القصص لزيادة الوعي والنصيحة، ولأن الأديبَ هو أحد مرايا مجتمعه، فكان لزامًا عليه أن ينقل تلك الصورة الضحيةِ إلى أوساط المجتمع؛ ليكون هناك بالتبعية وعيٌّ في تناول مثل تلك الأمور، وتصحيح في بعض المفاهيم، واسترشاد في المواقف المتكررة.

ولكن النقطة الأكثر اضطرابًا؛ هي لو أننا اعتبرنا الأديب مرآةٌ لمجتمعه، أيُعتبر هذا التقدير رخصةً له أن ينتهكَ مشاعرنا نحن المتلقين ما بين محافظين أو غير مبالين، ويخترق عقولنا بقصص ربما نكون لقراءتها وعرضها من الرافضين؟

وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نعود إلى ما يُعرف بجدلية القبح والجمال، وأن ندرك أن في وصف القبح جمالًا، فإن أتقن الكاتب وصف القُبح للدرجة التي تثير اشمئزاز المتلقي، وصوَّره وأحسن تصويره، فهذا من الجمال والإبداع، كأنما يُحسن الكاتب تصوير مشاهد القتل والحرب والدمار، فهي في ذاتها قبحٌ، ولكن من الجمال الإبداع نقلها بصورة حقيقية، تصيب المتلقي بالألم الناتج عنها حقيقة.

وهذا ما فعله هاشم محمود، فقد نقل إلى المتلقي الصورة كما هي، بما فيها من الشفقة على الضحايا، والاستنكار والاشمئزاز من المجرمات، مستخدمًا أدواته الروائية؛ لغة وشاعرية وأدبًا.

ولكني لا زلت أشعر ببعض الضيق من تلك القصص التي أثارت حنقي واستنكاري، فربما أيدته في تلك التي استجدت شفقتي، ولكني لا زلت لا أُمرر تلك التي أثارت اشمئزازي، فحتى ولو اعتبرناها من سبيل وصف القُبح، إلا أننا نعيش في إطارٍ من الضوابط النفسية والخارجية للمتلقي، فأدبنا أدب عربي، وما دمنا لا نستطيع أن ننزع صفة العروبة عن هذا الأدب، فلا بد وأن يتسق سلوكًا وأدبًا مع المعايير المجتمعية العربية.

ولا أريد أن أحيد عن درب النقد إلى درب الوصاية، فدور الناقد أن يوضح ما بالنص من جيد وما به من مُعاب بمعايير واضحة ورأي واضح.

ونهاية وفي مجمل الحكم، فهي مجموعة قصصية جديرة من الناحية البناءية النظرية، وجيدة من ناحية المعنى والمضمون، وإن كان لي عليها انتقادات فردية، إلا أن “معظم” العمل يستحق أن يُنشر ويكون أداة للوعي المجتمعي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *