سجلوا عندكم

مار مارون الناسك القدِّيس

Views: 118

دكتور عماد مراد

لم يؤلف الموارنة قبل القرن السابع كنيسة مستقلّة قائمة بحدّ ذاتها بل كانوا يشكلون أسرة روحيّة وحركة دينيّة استمرّت حوالى ثلاثماية سنة امتدّت من منطقة قورش على الحدود السوريّة – التركيّة شمالاً حتى جبال لبنان جنوباً، استقطبت حولها المؤمنين المتعطشين الى الارتواء من إيمان القديس مارون وجذبت الوثنيّين الراغبين بالتعرّف الى الدين الجديد تحت شعار “الصلاة والصوم ومحبّة الله على خطى مار مارون”. 

 

 من هو القديس مارون؟ 

 إن اول ذكر للقديس مارون ورد في رسالة بعث بها القديس يوحنا فم الذهب (347-407) من منفاه في مدينة كوكوزا في بلاد ارمينيا حوالى العام 404 الى “مار مارون الكاهن الناسك” يقدّر فيها تقواه ويطلب منه أن يذكره بصلواته. ويُستخلص من الرسالة ان القديس يوحنا فم الذهب يعرف الراهب مارون معرفة شخصية ووطيدة. ويُعدّ العلامة تيودوريطس أسقف قورش في منتصف القرن الخامس المصدر الرئيس لحياة مار مارون في كتابه “التاريخ الرهباني” الذي يحمل عنواناً آخر “تاريخ احباء الله”. لكن المعلومات التي كتبها عن الناسك مارون كانت عمومية تحدثت عن حياته النسكية وطريقة عيشه اليومية، ولم يعطِ أيّ قيمة للتواريخ، فبقيت تواريخ ولادته ووفاته ترجيحية بين منتصف القرن الرابع وبداية القرن الخامس ويمكن اختصار ما كتبه الاسقف تيودوريطس على الشكل الآتي: 

“إن القديس مارون الذي زيّن مصاف القديسين وأنبت كثيراً من أغراس الحكمة وأنشأ في منطقة قورش الجنة المزدهرة بالحياة الرهبانية والنسكية…، لم تقتصر حياته على الاعمال النسكية المعتادة لكن اخترع أعمالاً أعظم، اذ آثر الحياة في العراء صيفاً شتاءً وليلاً نهاراً، فوهبه الله مواهب الشفاء حتى اشتهرت اخباره بين الناس في جميع الآفاق فتقاطروا اليه من كل صقع ومكان… إنّ ما اشتهر عنه من العجائب هو صحيح… وكانت الشياطين تفرّ من هَوْل سطوته فهذا العظيم كان يعالج كافة الأمراض بدواءٍ واحد هو الصلاة وكان يبرئ الداء الجسداني والروحاني ايضاً، فيشفي واحداً من البخل وآخر من الغضب…، ويعمّم العدل ويحّذر من الشر… وعندما قرّر مار مارون الانقطاع الى الحياة النسكية في العراء أقام فوق جبل حيث كان هيكلاً للأبالسة، وبعد ان طهره من الشياطين كرّسه لله وأقام فيه”.

ويضيف المطران تيودوريطس: “لم يكتف (الراهب مارون) على المعتاد منها، فقد حبس نفسه في منطقة محدودة لا يخرج منها إلا لشغل الأرض في أعمال يدوية تضني الجسم وتقمع شهواته، مع قهر الجسد باللباس الخشن وتحريم الجلوس ومنع النوم..”. 

 

لكن هذين المصدرين لم يُعطيا قيمة للموقع الجغرافي ولم يذكرا أي موقع أو اتجاه أو منطقة قد يكون سكن فيها القديس مارون، فلا عجب إذاً أن نرى المؤرخين اللاحقين يختلفون في تعيين منسك القديس مارون بين مدن قورش وقراها والجبال المحيطة بها. 

ومهما يكن من أمر فإن أهل القورشية كانوا أول من أخذوا بذلك الإشعاع الروحاني المتدفق من قمة إحدى مرتفعاتهم، وهم أول من عاش وشعر بما قاله الأسقف تيودوريطس. لقد رأوا الراهب مارون يلتحف السماء ويفترش الأرض ويتوسّد الحجارة، يصلّي ويحاكي الله ليلاً نهاراً، واذا اشتدّ الصقيع وسقطت الثلوج يلجأ الى خيمة كان قد صنعها بيده من جلود الماعز، وقليلاً ما كان يستظل بها. 

ولم يكتفِ الراهب مارون بالصلاة والتأمل بل لجأ بشكل يومي الى التزود بالمعرفة والعلم والثقافة لإغناء حكمته عبر القراءة والمطالعة في الكتب القديمة والمعاصرة. 

وبسبب هذه الصفات والنعمة التي منحه إياها الله في شفاء المرضى والمصابين تقاطر إليه الناس أفواجاً من كل حدب وصوب، من سوريا وتركيا ولبنان والعراق وايران، واصبح اسمه مُرادفاً للإيمان والحق والحياة. 

من جهة أخرى لم يكن مار مارون ناسكاً منزوياً متقشفاً فحسب، لكنه كان لاهوتياً متعمقاً في الثقافة الدينية، له آراؤه الكنسية، فاستثمر ثقافته لتوجيه أهل قورش والمناطق المجاورة بالكلام والافعال، فكان لكلامه وأعماله الأثر الكبير في اعتناق الوثنيين الديانة المسيحية. 

كان لكلام مار مارون سطوة على زواره، فترك الكثيرون منهم الحياة الدنيوية وانضموا الى الراهب القديس في عزلته ممهدين نفسهم للحياة الأبدية. فشاركوا الراهب مارون في هدم الهيكل الوثني وبناء الاديار والكنائس والصوامع. 

توفي القديس مارون حوالى العام 410 محاطاً بجمهور من تلاميذه الذين كانوا قد سكنوا قمم القورشية وأوديتها ومغاورها حتى اصبحت حديقة غنّاء مزدهرة بثمار القداسة. وما إن فاضت روحه حتى تزاحمت على جثته الجماهير راغبة في دفنها لتكون بركة في ارضها، فظفرت بلدة أفاميا أكبر القرى واقواها في المنطقة بالجثمان واقام أهلها فوق قبره كنيسة تحمل اسمه.

بعد وفاة القديس مارون بدأت مدرسته النسكية بالازدهار، ولم تمضِ فترة زمنية قصيرة حتى ضم دير مار مارون حوالى ثلاثماية راهب، وقد فاق العدد الثمانماية راهب في منتصف القرن السابع. 

يذكر التقليد الماروني أن هامة القديس مارون نقلت من قبره الى دير مار مارون الكبير المشيّد على العاصي، ثم نُقلت الى دير مار مارون في كفرحي في البترون. وعندما استقر البطريرك الماروني الاول مار يوحنا مارون في كفرحي وبنى ديراً على اسم مار مارون، وضع الهامة في الكنيسة فسُمّي الدير بالسريانية : “ريش مرو” أي “رأس مارون”. وفي العام 1130 نُقلت الهامة الى ايطاليا على يد أحد الرهبان البندكتيين، ثمنُقلت الى فولينيو في ايطاليا بسعي من اسقفها، فصاغ لها المؤمنون تمثالاً من الفضة واودعوها فيه. ومنذ  عدة سنوات نقل التمثال الى لبنان باستقبال رسمي وكنسي ليعود الى مقره الأساسي في كفرحي.

وفي 23 شباط 2011 أزاح البابا بنديكتوس السادس عشر الستار عن تمثال مار مارون، في حفل أقيم للمناسبة في باحة القديس بطرس في الفاتيكان بحضور البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ليجاور تماثيل قديسي العالم بكل ما يحملون من تراث القداسة والتقوى، فيسهر على لبنان وأبناء الطائفة المارونية وسائر المسيحيين في العالم، ويقف شاهدًا على تاريخ كنيسة سمّيت باسمه وحافظت منذ نشأتها على علاقتها بخليفة بطرس وبكرسيه المقدس. فقد حمل مار مارون الكنيسة ليقدمها جماعة واحدة متحدة تنشر طيبها في أربعة أقطار العالم، وشاهدًا للعالم على شرق مسيحي متألم ومصلوب، راعيًا شفيعًا لرعيته لتكرمه وتعده بأنها ستحافظ دومًا على إرثه الثمين.

      تُعتبر حياة القديس مارون خارطة طريق لكل مسيحي أدرك ان الحياة فانية، لا قيمة لها الا في الخلاص. فطريقة عيش هذا القديس هي دليل للقيم الإنسانية والروحية مثل الإيمان والصلاة والمساعدة وضبط النفس والعلم والعمل والتبشير بكلام الله… إنها مبادىء سامية تقربنا من الله والإنسان. 

***

المصادر والمراجع:  

  • البستاني، فؤاد افرام، أب الموارنة مار مارون، الفصول اللبنانية، العدد3، 1980.
  • الدبس، المطران يوسف، التاريخ المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل، دار لحد خاطر، 1987.  
  • الدويهي، البطريرك اسطفان، أصل الموارنة، تحقيق الاب انطوان ضو، إهدن، 1974.
  •  الدويهي، البطريرك اسطفان، تاريخ الطائفة المارونية، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، 1890. 
  • غبريل، الخوري مخائيل، تاريخ الكنيسة السريانية المارونية، المجلد الثاني، بعبدا، 1906.
  • ضو، الخوري بطرس، تاريخ الموارنة، بيروت، 1971.
  • S. Vailhé, Origines religieuses des Maronites, in Echos d’Orient, IV (1901); l’Eglise Maronite du V au IX siècle, IX (1906).

***

*ملخص محاضرة  للدكتور عماد مراد حول  “تاريخ الموارنة في لبنان”، ألقاها خلال  اللقاء الذي أقامته الرابطة الثقافية رعية مار مارون  مساء الثلاثاء  ٠٤/ ٠٢/ ٢٠٢٥ في كنيسة مار مارون البوشرية.
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *