أريستوفانيس… أمير الكوميديا الإغريقية

Views: 210

وفيق غريزي

اريستوفانيس، مؤلف مسرحية “السحب”، هو الشاعر الإغريقي الذي يعتبره النقاد والمؤرخون أمير شعراء الكوميديا في العصر الكلاسيكي الإغريقي، وقد أصبح موضعا لعناية الدارسين من بعد مرور قرن على وفاته وحتى عصرنا الراهن. والى جانب المكانة التي يتبوأها اريستوفانيس، تكتسي مسرحيته “السحب” قيمة إضافية، ليس فقط لما تتضمنه من سمات فنية تجسّد منهج مؤلفها في الكتابة المسرحية، بل لأنها كذلك تعكس، بصدق، قيم المجتمع الذي ألفت فيه من الناحية الفكرية والسياسية والاجتماعية في وقت واحد. أما الأمر اللافت فهو أن اريستوفانيس يقدّم بطل هذه المسرحية، وهو الفيلسوف المعروف سقراط، من منظور كوميدي مفرط في السخرية، وبصورة مناقضة لمكانته الرفيعة التي تحفل بها المراجع الفلسفية لتجعل منه مثارًا للتندر، أكثر من كونه موضعا للاحترام، على الرغم من خلود أفكاره حتى يومنا هذا، ولكن لماذا عمد اريستوفانيس إلى الإزدراء بمكانة هذا الفيلسوف الكبير؟ ربما هذا ما تكشفه سطور هذه المسرحية. 

 

سقراط والمسرح الكوميدي 

يتساءل الدكتور عبد اللطيف احمد علي عما إذا كان لمسرحية “السحب” تأثير في اتهام سقراط وتقديمه إلى المحاكمة؟ وهنا تجدر الإشارة الى دور الكوميديا الأثينية بوجه عام في التعبير عن وجهة نظر جمهور المواطنين، أو على الأقل قطاع كبير منهم، “ذلك أن فن الكوميديا القديمة كان يتمتع بشعبية اوسع من شعبية التراجيديا، وليس ثمة ما يدعو إلى الشك في أن المسرح الكوميدي كان له دور في تأليب الرأي العام على سقراط “. لقد كان تقديمه في صورة هزلية ماجنة فوق خشبة المسرح التي كان يوًمها جمهور غفير من المشاهدين معناه في الواقع أن المؤلفين كانوا على يقين مسبق بتجاوب الجمهور مع نقدهم لسقراط وتهكمهم به، وإلا ما جازفوا بعرض مسرحيات تستهدف النيل منه والاستهزاء به.

ويرى الدكتور عبد اللطيف احمد علي أن: مسرحية “السحب”، يتهكم اريستوفانيس بسقراط بوصفه رجلا غريب المظهر والأطوار، وفيلسوفا طبيعيا مستغرقا في التأمل في ظواهر الكون، ومتعبّد للسحب. ويتهجّم عليه بوصفه، في زعمه، معلمًا للبلاغة لقاء أجر معلوم، أي كسفسطائي يلقّن الشباب فن الاقناع والجدل وإلباس الحق بالباطل، وقد عرضت هذه الكوميديا على “مسرح ديونيسيوس” في اثينا عام 423، أي قبل تقديم سقراط الى المحاكمة بنحو ربع قرن.

 وكان اريستوفانيس ينتمي إلى اسرة ميسورة الحال، ومع براعته في الهزل والسخرية والهجاء الفاحش الذي يبلغ حد القدح والتشهير، كان رجلا محافظًا، أن لم يكن سلفيا، إلى حد ما، في أفكاره التربوية وآرائه الاجتماعية”.

 والصورة التي يعرضها هذا الشاعر لسقراط في المسرحية صورة درامية لا تعّبر بالضرورة عن رأيه الشخصي او مشاعره الشخصية. ويرى احمد علي أن اغلب الظن أن هذا الشاعر لم يحمل في قلبه أي كراهية أو عداوة للفيلسوف، ولم يقصد مهاجمته شخصيا، ولكنه يقصد مهاجمة افراد بعينهم من السفسطائيين، وهو نمط التربية والتعليم الذي بدأ ينتشر على أيدي السفسطائيين. وهو نمط غير مسبوق، بل غير مألوف، تتبادر صورته إلى اذهان الناس فور ذكر اسم هذه الطبقة من المعلمين، ويلوح أن اريستوفانيس لم يكن معنيا بسقراط ذاته، فهو يغفل بعض الخصائص لهذا الفيلسوف التي كانت تصلح لأن تكون مادة خاما للإمعان في السخرية منه والازدراء به. 

 

مرآة صغيرة 

إن كل مسرحية من مسرحيات اريستوفانيس تعتبر مرآة صغيرة تعكس زاوية من زوايا الحياة الاجتماعية والسياسية، ومن ثم فإن أعمال هذا الشاعر الكوميدية في مجموعها تعد مرآة سحرية كبيرة تعكس كل ثراء الحياة الاتيكية من جميع زواياها ابان فترة تألّق اثينا حضاريا وفكريا، وبداية ذبول نفوذها السياسي وانكماش توسعها العسكري. إنها مرآة تعكس آفاق وأعماق مطامع اثينا التوسعية، وثراء اسواقها الاقتصادية، وتفرّد شخصية مواطنيها الاخيار والاشرار على السواء، وتعدد حركاتها الفكرية والفنية، ويمسك بهذه المرآة شاعر استطاع برغم الأضواء الساطعة التي تتضمنها أشعاره، أن يحتفظ لمشاهديه وقرائه بوضوح الرؤية وحيوية المتابعة التي تمكنهم من أن يستشفوا مدى الجدية التي تكمن وراء كل كلمة ساخرة ومدى العمق في ثنايا أي مداعبة عابرة. 

ويشير احمد علي إلى أن اسلوب اريستوفانيس يعكس طبيعة الموضوعات التي يعالجها في مسرحياته، فهو يستخدم لغة متعددة الألوان ؛ ولكنه يهيمن على مادته وأدواته التعبيرية ويستخدمها بيسر وسلاسة، فهو يتمتع بتدفق في الحوار ودفء في المقطوعات الغنائية، له عين نفّاذة وأذن حساسة تمكنانه من التقاط كل ما هو عجيب وفخيم، يميل الى المبالغة الساخرة ويحلّق مع الخيال المنطلق إلى آفاق لم يسبقه اليها شاعر من قبل، و”لم يقع هدفا لسهام نقده اللاذع ولسانه الساخر سوى الساسة البارزين والشعراء المعاصرين وأهل الفن والفلاسفة والعلماء ورواد حركات التحوّل الفكري بصفة عامة، لا يتعاطف إلا مع البسطاء الذين يميلون الى العيش في حدود والتمتع بملذات الحياة البسيطة، واتباع النظم والتقاليد الموروثة، والحفاظ على القيم القديمة “. ولقد اتبع اريستوفانيس في البداية شكلا ثانيا في بناء مسرحياته، ولا سيما في ما يتعلق بالبارودوس والبربابيس، وعلاقتهما العضوية ببقية اجزاء المسرحية.

 

سقراط في مسرحية “السحب “

إن سقراط الذي يعتبره اريستوفانيس زعيم طائفة من المفكرين، ويركّز عليه نقده وسياط سخريته، ولا أدل على ذلك من أن يجعله بطل مسرحية “السحب”، أن سقراط فيلسوف اصبحت مبادئه وافكاره وتعاليمه جزءا لا يتجزأ من حياة الناس منذ القدم وحتى يومنا هذا، فهو أول من نادى على تأكيد أن الانسان ينبغي أن ينظم حياته في ضوء تفكيره هو، تفكيره هو فقط، من دون الاهتمام بأي عوامل خارجية، أو حتى مؤثرات عاطفية.. ما لم تخضع جميعا لتفكيره “.

 لقد كان سقراط ثورة على التقاليد، ولم يبال بالنتائج، ولهذا، كان سقراط موضوعا ملحا على عقلية اريستوفانيس الشاعر، وعبقريته الكوميدية الساخرة، وشجعته على ذلك روح التبرّم والضيق بسقراط، التي عمت انحاء اثينا. 

ومسرحية “السحب” تقدم ابرع نقد وادق دراسة للسفسطائيين ولسقراط، ولو انها من جانب شاعر محافظ يحب القديم. والمسرحية في الواقع حافلة بالإشارات إلى الحياة الفكرية والسياسية والادبية في اثينا. فبين الحين والآخر نسمع من خلف السطور صوت شاعر أو موسيقي، ونشاهد من بين الكلمات رساما فنانا او نحاتا بارعا. ” وينبغي ونحن نقرأ مسرحية “السحب” أو نشاهدها، الا يشغلنا الضحك عما وراء السطور، لأن كل كلمة فيها ذات معنى مقصود ولها هدف مرسوم”. لننظر الى قول الشاعر في المسرحية: “اقسم بحق زيوس على انك جاهل يا من رفست الباب بقدمك، وبمثل هذا العنف وهكذا بلا وعي أجهضت فكرة لم يمض على اكتشافها سوى هنيهة”. هذا كلام بسيط في مظهره يأتي على لسان احد تلامذة سقراط. وقد يكون هذا الكلام بلا معنى ولا طعم إذا لم نتذكر أن ام سقراط كانت تعمل قابلة، وكان سقراط نفسه يفخر بذلك في جميع المحافل، وكان يزعم بأنه يقوم هو نفسه بالعمل ذاته. فهو يعلّم الشباب ويولد لهم ومن عقولهم قوى جديدة للتفكير. فالشاعر يسخر هنا من سقراط ومن امه.

 

ومن الملاحظ أن هناك تناقضا حادا بين التراث الأدبي المعروف عن سقراط في تاريخ الفكر الفلسفي من جهة، وبين الصورة الكوميدية التي يرسمها له اريستوفانيس من جهة اخرى. وقدم الدارسون حلين لهذا التناقض اولهما يقول إنه ” كان لدى سقراط في ايام شبابه المبكر وحتى الأربعينات من عمره، عندما عرضت المسرحية، اهتمامات بالعلوم والخطابة، ولكنه هجرها في ما بعد، وثانيهما يقوم على القول إن اريستوفانيس جهل أو تجاهل الفروق الجوهرية بين سقراط والسفسطائيين”. وهذا الحل الأسهل والاوقع. وبعض ما يعيب رسم الشخصيات في الكوميديا، فشخصية سقراط في السحب تمثل ما تميزت به الكوميديا من عدم التوافق في رسم الشخصية. كان هدف اريستوفانيس هو أن يجمع في مسرحيته كل ما ينسب في عصره والعصر السابق عليه إلى العلماء والفلاسفة والخطباء. فهم في السحب صفر الوجوه شاحبو اللون مزيلو الصحة وهكذا كان سقراط…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *