أين الموارنة؟

Views: 356

توفيق شومان

(وكالة أنباء آسيا)

لا سرًّا مستورًا ولا مكتومًا بين الموارنة اللبنانيين، يتنازعون على كلّ شيء، وحيث لم يبقَ شيء في وطن كان ومضى، يتنازعون كأنهم ينازعون الرمق الأخير، تمامًا مثلما ينازع لبنان رمقه الأخير. لبنان، ذاك الوطن الذي بناه الموارنة أو بُني لهم، كان ابتكارًا من ذهب، إذ ليس سهلًا أن يُبنى وطن. كانت “الفكرة اللبنانية” ابتكارًا مارونيًا خالصًا، مثلما كانت “الفكرة القومية العربية “ابتكارًا مسيحيًا خالصًا، وتمامًا مثلما كانت فكرة “إحياء اللغة العربية “ابتكارًا مسيحيًا مرموقًا.

والحديث هنا عن مبتكرين وابتكارات، وعن عقولٍ تنتج أفكارًا سياسية وقوميات ووطنيات ودولًا، ولا شك أن هذه العقول ذات فرادة واستثناء. إلى التاريخ القريب وبعض أشيائه: كان ثمة مبتكر ومعلم فعلي، اسمه بطرس البستاني (1819ـ1883)، وضع “دائرة المعارف” وألحقها بـ”محيط المحيط “كمعجمٍ لغوي عربي حديث بات مرجعًا ومصدرًا لأكثر المفردات المتداولة في النصّ العربي الحديث، ولم يقتصر عمل بطرس البستاني على “إحياء اللغة العربية”، بل انتشلها من قديمها وماضيها وحدّثها وعصرنها، وكأنه استولد لغة من لغة. مع بطرس البستاني، ستتزامن أسماء وقامات كبيرة مثل ناصيف اليازجي (1800ـ1871) وابنه ابراهيم، ومعهما ستخرج كتب “طوق الحمامة” و”مجمع البحرين” و”فصل الخطاب في أصول لغة الإعراب” و”لمحة الطرف في أصول الصرف”، و”نجعة الرائد “وغيرها من الكتب ومما كُتِب ليسكتمل إحياء اللغة ويكملها. اكتملت اللغة العربية جاءت القومية العربية.

في العام 1847، ستظهر مع بطرس البستاني وناصيف اليازجي جمعية “الآداب والعلوم” في بيروت لتشكّل الخطوة الأولى على طريق القومية العربية ومسالكها المتعرجة. وفي العام 1857، ستشهد بيروت ولادة “الجمعية العلمية السورية ” مع البستاني واليازجي وغيرهما، وهي الجمعية الأشبه بالحزب القومي العربي الأول، وفي العام 1860، سيصدر بطرس البستاني صحيفة “نفير سوريا” وهي أول صحيفةٍ قومية عربية، وبموازاتها، سيطلق ابراهيم اليازجي النشيد القومي العربي الأول، فيقول: فيا لقومي وما قومي إلّا عربُ ولن يضيع فيهم ذلك النسبُ كلّ الذين جاؤوا بعد ذلك، غرفوا من ذاك البئر، لغة وقومية، أمة عربية أو أمة سورية، وحدة عربية أو اتحاد عربي. كان ثمة عقول تبتكر أفكارًا. تلك العقول أدركت أن السلطنة العثمانية كانت في آواخر زمنها تلك العقول فكّرت وسألت: كيف يمكن تحويل الزمن المأزوم إلى حلمٍ مأمول؟ من هذا السؤال جاءت فكرة القومية العربية وهكذا كان.

قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى خرج العثمانيون وجاء الفرنسيون والبريطانيون، وكان ثمة عرب مع الأتراك، وثمة عرب مع البريطانيين، وثمة عرب مع الفرنسيين. الموارنة انزاحوا إلى الفرنسيين فكان لهم لبنان. و”نبش” الموارنة التاريخ وما قبل التاريخ ليؤسّسوا هوية وطنية لبنانية. تطرّف بعضهم حين وضع الوطنية اللبنانية في مواجهة القومية العربية التي ابتكرها المسيحيون ذاتهم، وتعقلن بعضهم الآخر فلم يرَ الوطنية ضدًّا للقومية، كما هي حال “العلاقة ” بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، أو كما هي حال “التفاهم” بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر. وبالعموم، أوجد الموارنة وطنًا ثم أوجدوا دولة ونجحوا في إيجاد هويّة وطنية لبنانية غدا لها خصوصية وذاتية لا لبس فيها، ومن مظاهرها أنماط العيش، وطرق التفكير، وأذواق المأكل والطعام، والفنّ، والإعلام، واللهجة الشعبية الواحدة، والتعدّد اللغوي، ومظاهر أخرى لا تقل شأنًا ولكنها تندرج في سياق فروق الخصوصيات بين شعبٍ وآخر.

تلك ابتكارات عظيمة بلا شك ولكن بعد الوطن وبعد الدولة ماذا عن الاقتصاد؟ وليس في باطن الأرض معدن ونفط وذهب؟ سأل الموارنة آنذاك وأجابوا: كان الموارنة اللبنانيون يعرفون أن طبيعة لبنان هي كما وصفها بالضبط حفيد ابراهيم باشا، محمد علي باشا في كتابه “الرحلة الشامية” الصادر في العام 1910، وفي الكتاب

يقول: “إن السائح إذا أراد أن يكسب صحّته وعافيته لا يجد مصيفًا طبيعيًا خيرًا من لبنان”. آنذاك، وفي بداية القرن العشرين، كان عدد المصطافين في لبنان لا يقل عن عشرين ألفًا، وذاك رقم مهول بلغة أرقام ذاك الزمان، ومن ذاك الزمان العثماني أكمل الموارنة زمانهم اللبناني، فكان قطاع السياحة على رأس الاقتصاد الوطني، مثلما هو واقع الاقتصاد “العثماني الحديث”، حيث تستقبل تركيا خمسين مليون سائح في كلّ عام.

السؤال الذي كان: لا نملك الذهب فكيف نأتي بالذهب؟ الجواب كان: نأتي بالذهب من خلال السياحة. في زمان الأجوبة والإبتكارات، شكّل لبنان درّة السياحة، عرب وعجم يأتونه من المشارق والمغارب، وأنتج ذلك سؤالًا موزايًا: كيف يتعصرن هذا القطاع وكيف يتحدثن؟ لم تتأخّر الإجابة، فذاك زمان الإجابات، وجاءت سريعًا: تحديث مطار بيروت وتطوير قطاع الفنادق، ومن يعرف بيروت قبل اغتيالها في حرب العام 1975، يدرك كم أن اللغة قاصرة عن وصف بيروت وشوارعها ومطاعمها وفنادقها ومسارحها وصالاتها السينمائية ومطارها. ذاك زمان كان. زمان الإجابات. وفي الإجابات أيضًا مرفأ بيروت. هذا المرفأ، كان قد استقبل في العام 1838 أكثر من 680 باخرة، وفي العام 1907، بات مرفأ بيروت يسهم بحوالي 11% من مجمل التجارة العثمانية فتساوى بذلك مع مرفأ سالونيك. سبق القول إن آوائل الموارنة اللبنانيين قالوا: لا ذهب في لبنان، وأجابوا: نجلب الذهب بالسياحة، ثم قالوا: نزيد الذهب بتطوير الفنادق وتوسيع المطار، ثم قالوا: نراكم الذهب بتحديث مرفأ بيروت ونجعله نجمة التجارة في الشرق، وكان لهم ذلك.

إجابة تلو الإجابة، وإجابات تلي إجابات، وهكذا مع كلّ أزمة وسؤال، فالأزمة فرصة، والسؤال الصحيح هو جواب صحيح على ما يقول الفلاسفة، وحين حطّ سؤال السياسات الاشتراكية في العالم العربي، أو أزمة السياسات الاشتراكية، وراحت رؤوس الأموال تفرّ وتهرب، وكان اتجاهها نحو الغرب، جاء من يسأل لماذا لا تلجأ رؤوس الأموال تلك إلى لبنان؟ السؤال كان جوابًا ودعوة لتستوطن رؤوس الأموال الهاربة، أو بعض منها في لبنان، فاستوطنت وأسهمت في مراكمة أثقال الذهب.

وعلى قاعدة كلّ أزمةٍ فرصة وأزمات العالم العربي عصية على الحصر والعدّ وعصية على الحلّ أيضًا، جاء من يسأل: كيف يتحوّل لبنان إلى حاجة سياسية بعدما تحوّل إلى حاجة مالية ومصرفية؟. الإجابة كانت صارخة: الإعلام المفتوح وحرّية التعبير السياسي وهكذا صار لبنان حاجة إعلامية وسياسية عربية، وبات رائدًا في صحافته وإعلامه، وكان العرب يصمتون في أقطارهم وينطقون في لبنان، واختصرت الصحافة اللبنانية واقع العرب ووقائعهم، وبات لبنان صوت العرب بنزاعاتهم وصراعاتهم وانقلاباتهم واتفاقاتهم ومحاورهم وسلمهم وحربهم، وبالمختصر وبالموجز، تحوّل لبنان حاجة عربية، وأزمات الخارج تحوّلت فرصة لبنانية، غير أن الحاجة الإعلامية وفرصة الإعلام، لم تطرقا أبواب لبنان صدفة أو على حين غفلة، فبين1852 و1915، صدر في بيروت 98 صحيفة و70 مجلّة، وهذه القائمة الضخمة من المطبوعات

اللبنانية مهّدت السبيل لتحويل لبنان في مرحلة ما بعد الاستقلال إلى ناطقٍ بلسان العرب وسياسات العرب. لم تنتهِ الإجابات بعد ولا الابتكارات قال أحدهم: الذهب يحمي ولكنه لا يكفي سأل أحدهم: ما العمل؟ أجاب أولهم: الفنّ من هويّة الأوطان.

قبل الأربعينيات من القرن العشرين، كان الفنّ السائد في العالم العربي، ومن ضمنه الأغنية، مصري الطابع، باستثناء الأهازيج الشعبية وألحانها البدائية، وخلال الخمسينيات وبعدها، بات للبنان أغنتيه، وبات يقال أغنية لبنانية، وباتت فيروز سفيرة الأغنية اللبنانية، وصباح نجمتها، ووديع الصافي قطبها ونصري شمس الدين ركنها، وهكذا في المسرح، وهكذا في الزجل والشعر الشعبي الذي وصل إلى ذروة تألّقه ووهجه في الستينيات والسبعينيات الماضيات. زمن الابتكار كان ماذا عن الآن؟ أي إجابات للموارنة عن لبنان الذي ينازع وهو “لبنانهم”؟ وأي إجابات عن الاقتصاد اللبناني المنهار وهو اقتصادهم؟ وأي إجابات عن الفنّ اللبناني الذي ابتكروه ولم يعد فنًّا؟ وأي إجابات عن الإعلام اللبناني المحتضر وكانوا رواده؟ حين أحيا الموارنة اللغة العربية كانت هذه اللغة في أزمة وحين ابتكر الموارنة الفكرة القومية العربية كانت السلطنة العثمانية في أزمة وحين ابتكر الموارنة الفكرة الوطنية اللبنانية كان العرب في أزمة لبنان يعيش الآن أزمة الأزمات وأم الأزمات وأشباهها وأنسبائها وأقربائها وكلّ سلالتها. أين الموارنة؟. عشتم وعاش لبنان.

(الاثنين 7 تشرين الأول 2019)

***

(*) monliban

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *