جديد دار نلسن: “نــاحـيــة المناصــف من المتصرفــيــــة إلى الانـــتـــداب ذاكرة وظلال” لحسّان أبي عكر
صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “نــاحـيــة المناصــف من المتصرفــيــــة إلى الانـــتـــداب ذاكرة وظلال” للسفير حسّان أبي عكر. في ما يلي المقدمة بقلم المؤلف:
منذ مطلع العقد الثالث من القرن التاسع عشر توالت على إمارة جبل لبنان أحداث متسارعة ومتلاحقة بدّلت وجه هذه الإمارة ونزعت عنها امتيازاتها حتى أودت بأسسها كلياً وصولاً إلى زوالها.
فمنذ وصول الحملة المصرية بقيادة ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا، الذي يفترض أن يكون والياً للسلطان العثماني على مصر، نجحت هذه الحملة في بسط سيادة الجيش المصري على ولايات عثمانية في بلاد الشام الواسعة، ووصل هذا الجيش إلى التخوم المتقدمة للسلطنة المترهلة؛ وأقلقت هذه الحملة مصالح دول وأمبراطوريات أوروبا الغربية واستراتيجياتها في مرحلة نهوض المشاريع الاستعمارية وفي زمن فتحت شهيتها على تركة الرجل المريض…
في نهاية هذا العقد الثالث ذاته، وبعد سنوات من التوسع بالعنف والتفرقة والتجنيد الإجباري وبعض التحديث المنقول من مصر، وصل اسطول التحالف الأوروبي وبعض سفن السلطنة العثمانية إلى شواطئ الإمارة فأنهى قادة هذه الأساطيل تلك المغامرة الجريئة واضطر ابراهيم باشا مع بعض قيادة جيشه إلى التراجع إلى ولاية والده لقاء بعض بعض الترضيات والامتيازات الوراثية.
حفل هذا العقد على صعيد الإمارة، بأحداث متناقضة من التمرّد والعاميّات والتفرقة الطائفية وبداية الاستعانة بالقوى الغربية، وازدياد تدخل قناصل تلك الدول في الشؤون المحلية وبالتالي ازدياد مراكزهم…
أما الحدث الأهم الذي انتهت على إثره الحملة المصرية فكان نهاية عهد الإمارة في الجبل. فمع عودة ما بقي من الحملة المصرية وقياداتها كما قلنا، ركب الأمير بشير الثاني مع بعض حاشيته سفينة أودت به إلى مالطا منفياً.
ولم يفلح الأمير بشير الثالث باسترجاع عناصر الحكم، ربما لسياسته الخرقاء المنحازة واصطدامه المبكر بمشايخ الاقطاع في أرجاء الإمارة. وما لبثت أن وقعت هذه الإمارة تحت سلطة الباب العالي مباشرة وتحت رقابة قناصل الدول الذين باتوا مشاركين بالقرار… حتى ان تدابير مبعوث الباب العالي عمر باشا النمساوي لم تنجح بتهدئة القلاقل بعد رحيل الحملة المصرية…
وما يلفت الانتباه أن حركة العاميّات والانتفاضات الفلاحية حلَّ محلها النزاع الطائفي وبأسماء توحي بالاستقلال والحكم المحلي المباشر بذريعة استعادة حكم الامارة..
وجاء إقتراح نظام القائمقاميتين عام 1841 كوصفة غير ناجعة لمجموعة أمراض مزمنة وناشئة، أهمها التغيرات الديموغرافية والصراع مع أصحاب الاقطاع ورغبات استعادة حكم الإمارة ، ولو على قسمٍ منها بات متجانساً طائفياً واجتماعياً…
والدليل على ذلك أن الأحداث الطائفية عادت لتذّر بقرنها مجدداً بعد عام 1845…
ويأتي موظف عثماني آخر بتنظيمات جديدة هو شكيب أفندي، ليعالج مؤقتاً قضايا لن تحل وأهمها: التعويضات للمتضررين من الأحداث السابقة وخضوع أبناء كل قائمقامية لسلطة القائمقام بصرف النظر عن طائفتهم.
هكذا تراكمت المشكلات السابقة وتعاظمت، وأضيفت عليها عوامل مستجدة لتنفجر حوادث طائفية في العام 1860.
وأصبح النفوذ الخارجي أكثر فاعلية، ولم يكن للقائمقامين الاثنين قدرة أو سلطة لممارسة مهامهما، خاصة في القائمقامية النصرانية لضعف سلطة أمراء أبي اللمع (المتنصرين حديثاً) على القيادات والزعامات الناشئة في المقاطعة، ولتنامي دور الكنيسة برجالها وهيئاتها. كما أن بعض قيادات شيوخ الشباب في القرى المسيحية تحولوا من مناضلين استقلاليين إلى “أبطال” طائفيين، يتطوعون لدعم أبناء طائفتهم في القرى القريبة أو البعيدة…
وكما لم تكن حدة الحوادث الطائفية لعام 1860 متجانسة أو متساوية بين المناطق، كذلك كانت تداعيات هذه الحوادث… وهي إجمالاً وقعت في المناطق المختلطة وعلى تخوم بعض القرى المنعزلة، ولم تحدث تداعيات عميقة في كل الأمكنة، وبالتالي لم تتعرّض البنى الاجتماعية أو الاقتصادية أو السكانية لتغيّر عميق في الأماكن البعيدة عن مواقع الاقتتال… لا بل ساد انطباع مع الزمن ان كل مناطق القائمقاميتين ظل يتأجج فيها القتال ولمدة طويلة..
أما في ناحية المناصف فجرت حوادث كثيرة قياساً لمساحة المنطقة ونتجت عنها تداعيات جمّة أثّرت في عمق جوانب وبنى هذه الناحية.
فهي من جهة تقع فيها عاصمة الإمارة دير القمر قبل أن تنتقل إلى بيت الدين مع الأمير بشير، مع ما يرافق هذا الموقع من تطوّر اقتصادي وديمغرافي واجتماعي. وهي عاصمة مشايخ آل نكد مقاطعجيي هذه الناحية من جهة ثانية.
وإذ بناحية المناصف، بتحوّلها إلى مسرح للاقتتال مع ما يرافقه من خسائر تنقسم إلى منطقتين بعد حوادث 1860 بموجب نظام المتصرفية :
- مديرية المناصف مع بقية القرى، بعد استتباع قرى ومزارع لمديرية دير القمر.. أي أن هذه المديرية أصبحت بلا عاصمة تقريباً…
- مديرية دير القمر التي أصبحت مديرية مستقلة تتبع للمتصرف، بعد أن كانت عاصمة لكل الناحية.
والأهم من هذا التدبير الإداري الذي له أسباب وأبعاد طائفية واقتصادية ان مشايخ آل نكد الذين كانت دير القمر قاعدة إقطاعهم شهدوا نهاية حكمهم وعهداتهم بعد حوادث 1860، وابتعدوا عن المناصف بالتدريج واكتفوا بأن يبقى أحد أفراد العشيرة مديراً لهذه الناحية…
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الانهيار الاقتصادي للعائلة النكدية بعد تلك الحوادث، فلا بد أنه إنعكس بنتائج مختلفة على المنطقة.
ولا بأس أن نلاحظ أن النفوذ الاقطاعي لهذه العشيرة بدأ يحل محلّه نفوذ آخر أو استفاد من غيابه أو عجّل في فترة سابقة من إضعافه…
هذا ما يحاول هذا البحث متابعته وإلقاء الضوء عليه في محاولة غير سردية وفي قراءة للأحداث بنظرةٍ جديدة وبأبعاد متنوعة…
فمع هذا الانفصال الإداري للعاصمة السابقة وتراجع الدور السابق لمشايخ الإقطاع، وانتقال معظم أبناء العشيرة للسكن في ناحية الغرب… مع كل هذا دخلت المناصف في الظل وانحسر دورها السياسي وعاد مجتمعها للعمل الزراعي، بعد أن كان رجال هذا المجتمع خزاناً سياسياً وقتالياً للإقطاع النكدي… وفي حين سارت مدينة دير القمر بعد نظام المتصرفية باتجاه اقتصادي واجتماعي وديمغرافي ثم سياسي مغاير، بقي القسم المتمثل بمديرية المناصف يتأقلم مع أوضاعه المستجدة أو يداوي جراحاته وينصرف إلى حياته الزراعية الساكنة..
وقد توخينا في الفصل الأخير أن نعرض سرداً موجزاً لمسيرة دير القمر في تلك المرحلة. فهذه الإضافة ضرورية لإجراء مقارنة موازية مع التطور التاريخي لناحية المناصف وللإضاءة على اختلاف البنية الاقتصادية ثم الاجتماعية والسياسية، ثم التمايز الطائفي في المدينة التي كانت عاصمة المناصف قبل قيام نظام المتصرفية.
وإذا كانت المصادر والمراجع متوفرة بكثرة للعودة لتاريخ دير القمر، فأن هذا الأمر غير متوفر في بقية المناصف. لذا نكتفي بما توفر لنا وما نشره أبناء المنطقة من دراسات من جهة وما تركه معمرون أو أبناء من مرويات وأخبار ووثائق قليلة، وضعناها كلها تحت منظار التدقيق والتبصّر…
هذا ويشمل الكتاب ثلاث دراسات وثائقية فريدة. اثنتان منها اقتصادية واجتماعية والثالثة دراسة عن مجتمع جبل لبنان تنير على تاريخ الإمارة في الفترة المشمولة ذاتها وذلك من خلال الأرشيف الدبلوماسي النمساوي؛ تقوم حالياً جامعة الروح القدس في الكسليك بإصداره تباعاً.. وتضيء الدراسة بالأرقام على قرى القائمقاميتين بما فيها المناصف ودير القمر، وعلى الخلافات الطائفية التي بدأت تنشأ، ومتابعة الدول الأوروبية لأحوال جبل لبنان.
أما الموضوع الثاني فهو دراسة وثائقية عن كرخانة جسر القاضي الواقعة في بلدة ديركوشه وذلك بالعودة إلى سجلاتها الأصلية ووثائقها، وهي ما زالت محفوظة في منزل السيّد صلاح فؤاد فارس ضو، وهو حفيد أحد مؤسسي الكرخانة وأصحابها لغاية توقفها؛ وكان بودّنا التطرّق إلى كرخانة في بلدة بنويتي المناصفية والتي كانت مملوكة من أبناء سليمان خطار… وهي كانت تابعة لإقطاع آل نكد…
أما الموضوع الثالث فهو دراسة لجمعية الاتحاد الوطني في بلدة بشتفين من خلال سجلها المتوفر لدينا… وهي جمعية عالجت مواضيع اجتماعية وانمائية وحتى مسلكية ومذهبية نعتبرها مواضيع متقدمة وراقية بمقياس العقد الأول من القرن العشرين…
أخيراً أن الكتابة التاريخية هي عملية تكاملية مستمرة وتستند على معلومات ووثائق أو مصادر جديدة، أو على تحليلات وقراءات متجددة لأحداث مرّت أو دراسات سبقت..
وليس القصد من هذه الصفحات التقليل من قيمة الدراسات والأبحاث التي بذلت فيها جهود مُقدّرة للإضاءة على تأريخ منطقة المناصف وخاصة دراسات كتبت عن القرى (بشتفين، كفرفاقود، كفرحيم) ولكننا رغبنا أن نتخطى التفاصيل المحلية والمعلومات المندرجة في تلك الدراسات لإعتقادنا أن المنطقة لها طابع تاريخي واقتصادي واجتماعي متشابه…
أتقدم بالشكر أخيراً لكل من ساهم في إغناء هذه الدراسة سواء بروايات شفهية أو ملاحظات أو بوثائق…
وأخص بالشكرالزميل والصديق السفيرفارس عيد الذي وضع قسماً من الأرشيف النمساوي بتصرفي، وساهم كذلك بتنقيح نهائي للمخطوطة. وعلى أمل أن تكون لناعودة إلى بعض صفحات الأرشيف إذاظهرت بعض الوثائق المتعلقة بالمناصف.
ويسرّني أن أهدي هذه الدراسة إلى الأصدقاء في كل قرية، إلى الجيل الجديد المقيم والمهاجر، إلى أحفاد المجاهدين والشركاء والمشايخ المعمّمين..
بشتفين في كانون الثاني 2025.