محسن أ. يمّين يكشف بالظلال ملامح التراث

Views: 495

د. جان عبدالله توما

يخرج محسن أ. يمّين من عرزاله إلى العالم، يلبس كامل عدّته القلميّة محاولًا رسم الملامح والظلال في كتابه الأخير (ملامح وظلال ، منشورات البيت الزغرتاوي، الطبعة الأولى، 2018، مطبعة القارح، زغرتا). لكأنَّ خروجه هو إبحار في تجاعيد الوجوه وثنيات الرّاحات المُتعَبَة. من هنا يأتي قوله: “ما معنى أن تحمل قلمًا ولا تكون شاهدًا على إيقاع الحياة من حولك”( ص10). فرادة محسن أ. يمّين أنّ عينه اليمنى عدسة تصوير فوتوغرافية ذات شريحة واضحة “الملامح”، والعين اليسرى غرفة سوداء تتخايل فيها “الظلال” على الأسلوب القديم لتظهير الصور الواردة بين مفرق ومفرق، زقاق وزقاق، درب ودرب، من هنا نفهم كيف يستحوذ انتباهه “كلُّ نافر ومستغرب وشجاع وحكيم ومضحك ومبك”. (ص10).

شخصيات في الذاكرة

هذا كتاب يجمع خمسين مقالة نشرتها جريدة “المستقبل” وجمعها الكاتب مساهمة “في إنعاش ذاكرة بعض الذين اطّلعوا عليها في حينه، بالتزام صدورها الأسبوعي، أو بشيء من التقطّع أو أخفقت في حثّهم على التذكّر” (ص9). هذا كتاب يقدّم عبر ملامحه وظلاله بعضًا من سيرة الكاتب إذ “شعرت وأنا أُضيء وجه المكان الذي احتوى شبابي ومشيبي، آمالي وآلامي، تجاربي وعثراتي، دهشتي وخيبتي، محبتي ونفوري، تفاعلي وانكماشي، كما شعرت بأنني أسلّط الضوء على الإطار الزّمني الذي عشته وأعيشه”(ص10)، لذا لحظ محسن أ. يمّين من كان”يحتسي الخمر مع المحتسين، يردّد أخبار الأجداد، ينطلق صوته بأغانيهم المنسيّة، ويقول الزجل” (ص14).يستعيد الكاتب لحيظات الزمن الجميل المستتر حيث كان شفيق مع دابته الذي كان يقوم” بتضييف البنات ما كان يشتريه لهنّ الشباب من فواكه، وهن يمشين الهوينا خلال “كزدارهن” اليومي، فينقده من له حبيبة يتدلّه في غرامها ثمن بضاعته”(ص18). راح شفيق كيوبيد ودابّته وتغيّرت وسائل البوح بالغرام وسهلت فصار شفيق” يبيع التوت السلطاني ثمّ ضاع ظلّه في زحمة البلدة التي صارت مدينة”(ص18).

قراءة على الرصيف

حين تقرأ كتاب محسن أ. يمّين تشعر بأنّك جالس في مقهى/رصيف حيث تطلع عليك شخصيات الكتاب التي استلّها الكاتب من يومياته في الأزقة القديمة في زغرتا وخارجها إذ تكرّ سبحة الشخصيات: “المعلم بشير”(ص21)، و”السنيور حنا”(ص25)، أبو حليم الراوي (ص37) الإسكافي (ص42)، المعلم ميخائيل (ص45)، المعلم نقولا (ص49)، الحلاقان أبو سلمى (ص77)، والمعلم يوسف (ص79)،اللحام (ص83)، أبو المراجل (ص85)، الخوري (ص87 )، السائق (ص115) وغيرهم. لعلَّ القارىء سيلاحظ أنَّ الكاتب فيما يسجّل علاقته ومعرفته وما جمعه من أخبار حول شخصياته إنّما يقصد تأريخ الحياة، في وقتها، بأبعادها العلائقية الاجتماعية منها والإيمانية والحضور الإنساني فيها.

يجمع الكاتب شخصياته من واقع الحياة الشعبية حيث يجول ساحات التراث الشعبي ويعبّر عنه الناس بمهنهم المختلفة. تدوخ مع محسن أ. يمّين في دروب القرى حيث عجقة الناس وسعيهم إلى تكريس نمط حياة عفوية من خلال الحِرَف التي كانت سائدة وقتها كمصدر رزق لمجتمع عفوي فيه خير وبركة.من هنا تشمّ في صفحات الكتاب رائحة الكاز المنقول بالعربة لتوزيعه على البيوت مع أسعد بياع الكاز (ص33)، ، وفيما تقلب الصفحة تجد نفسك تفتح راحة يدك ليقرأ فيها مستقبلك المبيض المبصّر (ص63)، ولا ضير إن تناولت سبحة فريد، بائع المسابح (ص53) لتداعب حبّاتها فيما تقرأ على أنغام عمل حائك القصب (ص73). كثيرة الناصيات التي يوقفك فيها الكاتب مستمعًا أو مراقبًا أو ملاحظًا حركة الحيّ الذي كان، حيث صوت هنري بيّاع الحديد(ص95)، وذاك الذي كان يطبّب الموجوعين بالأعشاب (ص91)، ولن يغيب عنك سماع الأخبار من وفيات وأحداث بصوت موريس الإعلامي للقرية (ص107)، فيما يحوم حولك ماسح الأحذية (ص125) بانتظار إشارة منك فيما تتأمل حذاءك في عبورك تلّ التراب أو مجاري الماء في الساحة أو أمام مصطبات البيوت.

خارج زغرتا

لم يكتفِ الكاتب بمنطقة محدّدة جغرافيًّا وهو كما يقول عمر بن أبي ربيعة “أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت/به فَلَوَاتٌ فهو أَشْعَتُ أغبَرُ”، وبالتالي فهو باحثٌ عن أوجه التراث في أسواقِ طرابلس وفي جبيل وغيرهما من المدن الساحلية التاريخية. فيذكر مكتبة السائح طرابلس (ص131)، ومكتبة المعلم زكريا معاليقي على منشية طرابلس( ص 139وص147)، وكتب إلياس موسى في جبيل (ص135). ما هذا الضعف الذي يصيب محسن أ. يمين أمام رفوف المكتبات، خاصة تلك غير المرصوفة كالعسكر المرصوص بل تلك المرميّة هنا وهناك كانتشار فوضوي لأفراد الميلشيات؟.يستفزّ الكاتبَ ذاك الغبارُ المكوّمُ على ورقة قديمة أو كتب عتيقة فهو يجد فيها تاريخًا منسيًّا ويرى أن كشف الغبار يقودك إلى ما كان، بانتظار كشف ما سيكون.

نساء في العاصفة

لم ينسَ يمّين النساء في عاصفة ذكرياته ووقوعاته. هنَّ عنده خزائن الأمثال الشعبية وحكايات الليالي الطويلة وألحان العمر في هدهدة الأطفال قبل نومهم. لكنّه في كتابه هذا جنح إلى المرأة الحرفيّة ليشير بصدق وواقعية إلى ما كانت عليه المرأة في العمل أو النضال وفي رسم الصورة التقليديّة لنساء ذاك الزمن الذي اخترقته المرأة بحضورها وعملها وقدرتها على التأقلم في اقتحامها مجالات الحضور الإنساني كالخياطة الحافظة تاريخ الولادات(ص27)، والمنتورة (ص31)، أم الغيد (ص81)، الآنسة جارتنا (ص99) فريدة حاملة ختم المخترة في بلدة كفرحاتا (ص111)، وكاتبة المكاتيب (ص175).

من “كاتبة مكاتيب” الشوق أخذ محسن أ. يمّين أسلوب كتابة ذكرياته، وختمت المختارة” فريدة” بختمها على شهادته الحقّة، ليكون ما كان معبر الواعين إلى عفوية نفتقدها اليوم، وبساطة نشتاق إليها في جنون تعقيداتنا وصعوبات تكاليف حياتنا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *