قراءة د. إيلين عيسى النفسيَّة لرواية د. سحر حيدر “جرح النازفة”

Views: 193

د. إيلين عيسى

(محلّلة نفسيّة)

جُرح النازفة، كتاب مؤلم بموضوعه، فهو بتحدث عن “سفاح القربى”، ولكنه رائع في سرديته، تبدأ بقراءته ولا يمكنك التوقف. فقد نجحت الكاتبة بفضل سلاسة تعابيرها وانتقائها لمفرداتها المتصلة بعمق المشاعر  في كل كلمة اختارتها وفي كل فصل كتبته في ن ان  تشدّ انتباهنا وتأخذنا معها لملامسة المعاناة والظلم اللذين عاشتهما أمل.

شكراً لشجاعتك زميلتي د. سحر حيدر  لكسر حاجز الصمت وخاصة أن الجرح هو جرحٌ فُتح في الطفولة ولا زال ينزف وقد لا يتوقف.

 كلما نظرنا في عمق هذا الموضوع كلما رأينا ان الولد في العائلة السفاحية هو شيء، ليس إنسانا، فهو مِلكٌ لمن أنجبه. شبقية جنسيّة تحدد مصير الولد ويتعامل الأهل معه كشيء عديم الإحساس، عديم الذاكرة، صغير وهش، تبعي والأخطر من ذلك انه موضوعٌ  يسهل إسقاط الاضطرابات والشذوذ عليه. في تشييئ أمل حدث شرخ كبير بينها وبين ذاتها، فتآكلها الذنب والعار وغرقت في صمتٍ مطبق ومحكّم لحماية أمها، فيغدو بحث أمل عن الأمل، بحثًا طويلًا وبعيدًا كسراب تركض خلفه ولا مجال لالتقاطه، إلا في البحث عن اتحادها مع ذاتها،  ولكنها ببحثها المتكرر عن المخلّص خارجاً تصعب المهمة، وعبّرت عن ذلك بقولها : “كان ما كان ظناً مني انه سيحرّرني مني”، فالتجارب النفسية تتكرر والجرح النرجسي يتّسع والمجتمع لا يرحم الضحية.

 

أعادني الموضوع الى مرحلة كتابة أطروحة الدكتورة وشعوري آنذاك بالمفاجأة من كثرة وجود السفاح في مجتمعنا، فلا يقتصر الأمر على الأب بل نجد حالات حيث الأم تعتدي على أطفالها، على الأخ او الأخت، على العم والعمة، على الجد والجدة، الخ. فالموضوع متشعب ومدمّر.

سفاح القربى هو سبب ونتيجة لفوضى وخلط بين الأجيال، تُمحى الحدود البنيوية للعلاقة اهل/ولد،  “ليلة إغتيال طفولتي” تقول أمل، لحظة حوّلها أبوها الى شريكة جنسيّة يمارس معها ما يفعله الكبار.

السفاح، لا يعرف دين أو طائفة، لا مستوى اجتماعيًّا اقتصاديًّا أو لونًا، فهو مرتبط بتركيبة عائلية، اضطراب وانحراف جنسي. الكل يعلم بما يجري ان كان بوعيّه أو بدون وعيه.  فالنكران سيد الموقف.

عائلات مغلقة، محكمة الإغلاق، مقفلة ومقفرة كالقلعة تفصل بين الداخل والخارج. قوانينها خاصة لا علاقة لها بالخارج ولا بالتمدن.

 الأب الإنسان، الطبيعي كما نقول، هو الاب الحنون، الراعي، ممثل السلطة الرمزية وحامي القانون، بينما أبوها ناداها بصوت خافت “تعالي أعلّمك ما يفعله الرجال والنساء. أنا أولى من الغريب”.

 

هذا الأب  “كالذئب المفترس”  كما أسمته، أرهبها، زعزع أساساتها، نقلها من مرحلة اللامعرفة والبراءة الى مرحلة الهوس الجنسي، فهو يعيش انطلاقا من قانونه الخاص، فهو الآمر والناهي ولكنه يخاف من شيء واحد  تقول “لهفته وخوفه عليّ، ليس لأنني ابنته الوحيدة، بل تفادياً للفضيحة”.

ولم يبقَ لأمل المراهقة والراشدة إلا وسيلة  وحيدة للإاتقام من الرجل بتشييئه بنفس الأدوات بالتماهي بالمعتدي.

نُسأل دائماً أليس الأب ضحية ايضاً؟

” ألا ترى أنّ كلينا فريسة والحياة هي القطّ الأسود الكبير الذي قرّر أن يلهو بنا” تقول أمل.

والجواب : نعم، نضمّ صوتنا لصوت أمل: الاثنان ضحية، ونضيف ولكن:

هو مذنبٌ اولاً، فقد اختار شبقيته على أبوته اذا كان للأبوة معنى لديه. فهو عالمٌ بفظاعة ما يقوم به، ألم يهددها ويجبرها على الصمت وهددها بأمها! ولكنه اختار لها الموت النفسي، السفاح.

 

“لست ضعيفة، تقول أمل العاهرة كما تسمي نفسها، بل أنا الأقوى، نعم، أختار ضحيتي. فهم يطلبون المتعة والسترة … المهمّ الا يُفتضح امرهم”. وتضيف “عليّ الانتقام من الرجال، جميعهم من دون تمييز”. “كنتُ أُجبرُ أحدُهم على الرُكوع أمامي. صادفتُ المهووس والضَّعيف، المكبوتَ والمُتفلّت”.

فالكل يخاف من الفضيحة، المعتدي يخاف من الفضيحة، الباحث بالخِفية عن اللذة يخاف من الفضيحة.  أليس “الرجل يزني ولكن ذنبه مغفور في مجتمعات أدمنت التصنّع”. فكيف علينا أن نستفيد كمجتمع من هذا الخوف من الفضيحة لنحمي الصغار؟

لماذا المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه يجعل من الرجل ذكراً، كائنًا غرائزيًا فقط، آلة جنسية همّها إثبات ذكوريتها. أليس بذلك يُقلص من كينونة الرجل كإنسان؟ فيغدو اندماج شخصيته ثانويًّا، والأهم هو الصورة الاجتماعية والتسلط. أتذكر منذ ٢٥ عاماً حينما تكلمنا عن السفاح على التلفزيون قامت الدنيا ولم تقعد واعتبرت حينها جهات مسؤولة أننا نشوّه صورة العائلة. عن أي صورة عائلة يتحدثون؟ تلك التي تقتل الصغار والأولاد نفسياً.

وبالنهاية، يهمنا التذكير بأن سفاح القربى ليس حكراً على العائلات من المستوى الاقتصادي الاجتماعي المتدني، كما نسمع دائماً، هذه الحجة تحمي العائلات الغنية وأصحاب النفوذ. فالسفاح هو انحراف موجود أينما وجدت تركيبة بنيوية للشخصية وللعائلة.

ان الوعي من خلال التحليل النفسي وتطبيق القوانين لحماية الأولاد وإنشاء مؤسسات للتأهيل سُبُلٌ تساعد في كسر الصمت وكسر جدار العائلة المغلقة التي يعيش فيها الأولاد الضحايا.

شكراً د. سحر ومبروك لك على هذا النتاج الأدبي العميق.

***

*ألقيت في الندوة حول رواية “جرح النازفة” (الصادرة حديثاً عن منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء) للدكتورة سحر حيدر برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، وبدعوة من “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي” والدكتورة سحر نبيه حيدر، في الجامعة الأنطونيّة بعبدا (الحدث) – مبنى إدارة الجامعة، في حضور فعاليّات أدبية وثقافية وتربوية ودينية واجتماعية.

شارك في الندوة إلى جانب الدكتورة والمحلّلة النفسيّة إيلان عيسى:  الأب ميشال السغبيني (رئيس الجامعة الأنطونيّة)،  الدكتور علي الصمد (مدير عام وزارة الثقافة)،  الأديبة ميراي شحاده الحداد (رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء)، الأديب والشاعر الدكتور سهيل مطر (نائب رئيس جامعة سيدة اللويزة سابقًا)، الدكتورة ريما كرم كرم (رئيسة قسم علم النفس في كلية التربية – الجامعة اللبنانية).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *