شجرةُ التوت وسحر الستّين!
قديمًا درج الشعراء والأدباء على نشر رسائل مفتوحة متبادلة في ما بينهم على صفحات الجرائد، فيتفاعل الناس معها مؤيدين أحيانًا طرفًا من الطرفين، ويكبر الحماس، لا سيّما إن كانت الرسائل تتضمّن مواضيع تحتمل الجدل والأخذ والرد… اليوم يعيد الشاعر موريس وديع النجار إحياء هذا النمط الأدبي مستوحيًا من نصّ وجداني بعنوان “التوتة في حديقتنا”، كتبته الأديبة مارلين سعاده احتفاءً بذكرى ميلادها وقد شارفت الستين، ليبني عليه نصّا شعريًّا مفعمًا بالوجدانيّة والحنين، ويقدّمه هديّةً لصديقته الأديبة في عيدها.
في ما يأتي قصيدة الشاعر موريس وديع النجار، تليها قصيدة الأديبة مارلين سعاده:
يا توتةَ الدار، إن هاج الهوى فينا،
إلى ربوعٍ نأت، والشوقُ يكوينا
نرنو إليكِ، أليست مثلنا بعُدَت
عنك الديار، وما يُشجيك يُشجينا
إن هزَّنا سأمٌ يجتاحُنا هلعٌ
أنْ، في السآمة، قد نضوي الشرايينا
وأنتِ، في الصبر، صرتِ للملا مثلًا،
إذ بتِّ، في الغُربة، النكراءِ تَنمينا
ففي الربيع على أوراقِك ارتسمَت
خصوبةُ الأرض، وازدانَت تلاوينا
هذي الشجيراتُ جيرانٌ، بوحدتها
تقولُ: ذي الأرضُ ليست من مغانينا
يا سحرَ توتتِنا قد زارَنا أملٌ
أنَّ الحياة، ولو ضنَّت، ستُغنينا
بالسحرِ يغمرُ أيّامًا لنا كبرَت
وكدَّسَت سنواتٍ بتنَ ستينا!
*****
قصيدة التوتةُ في حديقتنا… للأديبة مارلين سعاده:
هزَّني السأم
أفقْتُ مجدّدًا من سُباتي
نفضْتُ الضجرَ عنّي ونهضت
بينَ الوسادةِ والحياةِ خَطَوات
عَبَرتُها على عَجَل
أسرعْتُ أبحثُ عن أنفاسي قبلَ أن تضيع…
في الليل تصفو الرؤية
ينامُ الضجيجُ وتصحو الوحدة
التوتةُ في حديقتنا تتحنّى بضوءٍ اصطناعي
لا سُلالةَ لها هنا
ولا جُدود
كانت أرضُها مربِضًا لشجرِ اللّيمون والأكيدنيا…
للضوءِ الأبيض على أوراقِها سحرٌ!
لا تدري لمن تتزيّن
ولا مَن يرث ماضيها!
تَقْبعُ بوداعةٍ آسرة
كراهبةٍ في معبدِ الجَمال!
تلتمعُ وريقاتُها بغُنج
تسكَرُ بسحرِ الكون
ونقيقِ الضفادع…
الوجودُ يتغلغلُ بينَ أغصانِها
يغفو في ظلِّ أوراقِها
يهدهدُهُ سحرُ اللحظة
تصلُها همساتُ العابرين من فصائلَ أخرى:
“كُنّا هنا الملوك”!
تختنِقُ حسراتُهم كلّما لامستِ الضوءَ المسلّط عليها
هُم اعتادوا ضوءَ القمر
والفَلاةَ…
بلبلتْهُمُ الغُربةُ المُهيمِنة
أضواءُ الأبنيةِ المحيطة…
عالمٌ آخر لا يعرفوه
ولن تعرفَهُ العيونُ التي ألِفَتهُم
إن عادت…
مِن أين تأتي توتتُنا بهذا السحر؟!
مَن يمنحُها هذا العزم؟!
لا الأسوارُ ولا الأبنيةُ العالية ولا الأصواتُ الطارئة تُخمد سحرَها
أو تُطفئ وهجَها!
هي عروسُ اللحظةِ وكلِّ لحظة؛
لا ذكرى الماضي تُقلقها
ولا هواجسُ الآتي…
تحلمُ بعصفورٍ ولا تُخيفُها الطائرة المحوِّمة
تعانقُ الترابَ ولا تفقهُ لغةَ الصواريخ
تجودُ بثمارِها لكلِّ عابِرٍ ولا تدّخرُها ليومِ الضيق…
التوتةُ في حديقتنا تتحنّى بالضوء
لا يشغلُها أصلُه وفصلُه
تعانقُ اللحظةَ باتّحادٍ كلّي
تمتصُّ سأمي وتسرقُ منّي حكمةّ العقلاء
تُغريني بتجاهلِ العمر وأنا على مشارف الستين!