النازفة تتحدّى ذاتها والمجتمع

Views: 89

نجاة الشالوحي

رواية “جرح النازفة” باكورة أعمال الدكتورة والشاعرة سحر نبيه حيدرالروائيّة؛ الصادرة عن منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده.

 إنّها عمل سرديّ يغوص في أعماق النفس الإنسانيّة. ويُعدّ عنوان الرواية مفتاحًا تأويليًّا  دقيقًا، ولا ننسى كتاب “عتبات النصّ” لجيرار جينيت الذي أرسى فيه العديد من الأسس المهمّة لدراسة العتبات النصيّة في الولوج إلى النصّ وفي تحقيق دلالاته، وهو يحدّد ملامح النصّ وهويّته، ويبني كونًا تخيليًّا محتملًا. وقد اختارت الروائيّة عنوانًا جذابًا ويثير انتباه القارئ  ويتناص مع المرأة النازفة المذكورة في الإنجيل المقدّس، التي شفيت لمّا مسّت ثوب السيّد المسيح ولذا إيمانها هو الذي شفاها. وبطلة الرواية “أمل” وما يحمله هذا الاسم من رجاء وتطلّع وطموح والتمسّك بالأمل والتفاؤل. ولهذا فالبطلة أمل تتحدّى نفسها وتطمح إلى تغيير حياتها؛ والخروج من المستنقع التي أجبرت على خوض غماره.

 

ماضٍ ينزف

تطرح هذه الرواية العديد من القضايا الاجتماعيّة والنفسيّة، وتسلّط الضوء على نظرة المجتمع بكلّ أطيافه ومكوّناته إلى المرأة المغتصَبة؛ ثمّ اتّخاذها البغاء مهنة تعتاش منها؛ لكنّها تندم على سلوكها وتحاول النهوض لذا تصمّم على بناء حياة نظيفة بعيدًا عن مهنة البغاء. كما تحرص الروائيّة على استخدام الصور التي تظهر الحالة النفسيّة للبطلة  والواقع المرير الذي تعيشه، لذلك تحشد عبارات معبّرة عن صراع أمل الداخليّ ” ولم أعرف الانقطاع أو التعفّف عن… لكنّ النزعة الاغتصابيّة التي تراود ذكرياتي، في كلّ مرّة، تعيد شريط الظلم إلى رأسي…” ص (78) ” أعادتني تلك الليلة الظلماء إلى الدرك الأسفل من الأوحال، التي عبثًا أغتسل منها مهما حاولت،” فالزانية لا تطهر”، لا شيء يغسل عارها ومجونها…” ص(79)

وعلى الرغم من أنّ الرواية تتمحور حول أمل وتجربتها الشخصيّة، إلّا أنّ الموضوعات التي تطرحها تتجاوز الإطار الفرديّ لتغوص في موضوعات تدور حول علاقة المرأة بماضيها وتأثيره على مستقبلها، وكيف يمكن لهذا الماضي أن يصنع حاضرها؟ وكيف يؤثّر الماضي في تعاطي المجتمع معها؟

الاغتصاب والبغاء ثيمتان أساسيّتان تتداخلان في الرواية. مرارة الاغتصاب وتداعياته التي عاشتهما أمل ليس مجرّد شعور مقرف وعابر، بل هو جرح مفتوح ينزف ويؤثّر بشكل مباشر في كلّ قراراتها، وكلّ جانب من جوانب حياتها. وهذا الشعور لا يأتي من الأشخاص، بل من الذات، من القرار الداخليّ الذي اتخذته أمل بالبقاء في حالة المرارة بدلًا من المواجهة. 

 

بناء الذات

 إضافة إلى ذلك، هناك موضوع البحث عن الذات نرى أمل في رحلتها في عالم البغاء تحاول انقاذ نفسها بعيدًا من عائلتها في رحلة مليئة بالتحدّيات والصعوبات، ولكنّها ضروريّة لإعادة بناء ذاتها وردم ما تصدع. “أينك يا الله! ألا يكفيني ظلم والدي، والدهر، وما قضي من أمري… لكن هل يستجيب الله طلبي وأنا الآثمة الملوّثة بكلّ أنواع الخيانة؟ كيف يمكن لمن أسلمت له القياد أن يقدّمني “هديّة” من دون مقدّمات إلى رفيق عمره؟ كيف له أن يبيعني من دون استئذان أو حتّى “تحضير”… الدعم خير ما نحتاجه حينما نسقط في منتصف الطريق.” ص( 81) وكيف لأمل المسكينة أن تطلب دعمًا من عائلتها، والدتها المريضة توفيت ولم تكن قد تجاوزت التاسعة من عمرها، ووالدها اغتصبها وهي في الثامنة، واستمرّ بفعله إلى أن ظهر حمل الطفلة، وبدلًا من أن يكون مصدر الأمان والحنان، تحوّل إلى جزار، وأنكر جريمته،  بل دفع ابنته لتسلك طريق البغاء. 

تبرز الرواية معاناة أمل، وتنكئ جراحها، وتحفر في أعماق النفس البشريّة لذا تصوّر معاناتها وتداعياته النفسيّة والسلوكيّة، والرواية بشكل عامّ تدعو القارئ إلى التأمّل في سلوكيّات أمل المتروكة وحيدة تواجه قدرها، عوضًا من دعمها عاطفيًّا ونفسيًّا، ولكن يبقى السؤال: هل يمكن أن يعيد الدعم بناء ما تمزّق من جسور بين أمل والمجتمع، وبين أمل وذاتها؟    

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *