سجلوا عندكم

سحر حيدر في تقديم أمسية “الشعر في حياة الكاهن: فرح في الرجاء”… نُحاور الحرف لنُخرِج منه الحياة

Views: 195

برعاية  الأباتي جوزف بو رعد الرئيس العام للرهبانية الأنطونية المارونية، وفي مناسبة يوبيل ٣٢٥ سنة على تأسيسها، نظمت الجماعة الرهبانية في دير مار روكز – الدكوانة أمسية شعرية بعنوان “الشعر في حياة الكاهن: فرح في الرجاء”، شارك فيها: المونسنيور كميل مبارك، الأب عبدو أنطون ر.م.م، الأب مارون الحايك ر.أ.م. قدمت الأمسية وإدارتها الدكتورة سحر حيدر. في ما يلي كلمة د. حيدر في تقديم الندوة واختتامها. 

 

 

مساء الخير والشعر والكلمة الطيبة!

مساء النعمة والرحمة وفيض السماء!

خير ما نستهلّ به اللقاء قصيدةٌ توحِّدنا ونشيدٌ نعتزّ به، النشيدُ الوطنيُّ اللبناني.

أيها الحضورُ المعطَّرُ بالقداسة، الآتي من كلّ طيف، من كلّ موقع، من كلّ درب جاءت به المحبة…أهلاً بكم جميعًا، من مرجعيات دينية وروحية، إلى شخصيات فكرية وثقافية، إلى حضور علمانيّ ملتزمٍ  بالحقيقة والجمال. مساؤكم عبق رياحين، تضفي الفرح وتنثر الرجاء، وتجدد الأمل بغدٍ مشرق..

أهلاً بكم في بيت الكلمة، في دير مار روكز الذي خطّ الماضي على حجارته سطورًا لم تمَّحَ ويخطُّ الحاضر للآتي خطوطًا لن تمّحى. من هنا من على هذه التلة، راحت الرهبانية الأنطونية تنثر بذور الخير لتنطلق منها المؤسسات الروحية والتربوية والمهنية والاجتماعية، وتمهّد الطريق لكلّ من انتسب أو التجأ إليها، وتزهر ثمارها في لبنان والخارج، علماء وادباء وباحثين ومؤرخين تركوا لنا كنوزًا ما زلنا ننهل منها. استذكر معكم بعض أسماء المؤرّخين كالأباتي عمّانوئيل عبيد، والأب برناردوس غبيرة، والأب يوحنا صادر والأباتي أنطوان ضو، وبعض الشعراء الأنطونيين على غرار الأب أوجين جبارة والأب يوسف الشدياق وغيرهم كثيرون، وهي اليوم تجمعنا تحت أفيائها لتقول لكلّ واحد منّا: “وجودُك شهادة حيّة، الرجاء لا يزال يجمع، والفرح لا يزال ممكنًا، حيث لا تسأل القصيدة عن الانتماء، بل تحتضن الإنسان بما هو إنسان.

اسمحوا لي بدايةً باسمكم جميعًا أن أتوجّه بالشكر الخالص إلى راعي هذه الاحتفالية المميزة قدس الأباتي جوزيف بو رعد على مبادرته الفريدة ودعوته لنا في هذه الظروف غير الاعتيادية، إلى لقاءٍ قدسيّ، في محاولةٍ منه لبثّ روح الفرح والرجاء وإعادة الثقة بهذا الوطن الجريح.

والشكر تاليًا إلى كلّ  من ساهم في الدعوة إلى هذه الأمسية وفي تنظيمها والتحضير لها وإلى من تعب في  الظلّ ليُضاء هذا المساء بنور الكلمة والمحبّة

والشكر موصول إلى كلّ  من حضر ليصغي لا بالسّمعِ فقط  بل بالقلب والروح.

أيّها الأحبّة،

في زمنٍ تاه فيه الإنسان بين الشاشات والضغوطات وبات غريبًا في قلب عالمٍ كثُرت فيه الأصوات وقلَّت الكلمة، تبقى الرهبانيات شموعًا مشتعلة لا تبحث عن الضوء بل تُشعّه

هي ليست مجرّد مؤسسات، بل قلبٌ نابض بحضور المسيح في داخل  الإنسان

تزرع في الأرض اليابسة بذور المحبة وتُقيم من رماد التعب رجاءً حيًّا،

تعلّمنا أن القداسة ليست بعيدة  بل هي في التفاصيل:

في مرافقة مريض، في فتح باب مدرسة، في كلمة طيّبة تُقال عند الألم، في صمت صلاة يُحرّر، وفي خدمة تُمارس دون انتظار عرفان.

نلتقي في هذا الوقت الذي  تطغى فيه السرعة على التأمّل، والصورة على العمق والكثرة على المعنى    لنستعيد ما نخشاه أن يكون قد تلاشى:

اللقاء، الصوت الحيّ، الوجوه التي تضيء بكلمة، وتدفأ بنظرة، وتعيش المعنى.

يقول بطرس الرسول: “القوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتَى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح.”

في هذه السنة وبالرغم من كلّ ما يشهده العالم من اضطرابات، نحتفل  بحدثٍ يحمل روح اليوبيل: “وتكون هذه السنةُ سنةَ رضى الربِّ على شعبه لعودتِه إلى الانجيل”

نحتفل بيوبيل الثلاثُمِئةِ وخمسةٍ وعشرينَ سنةً 325 للرهبانية الانطونية وشعاره” فرحون بالرجاء”، ونستعيد نداء قدس الأباتي جوزيف بو رعد حين أوصى قائلًا: لا تسمحوا لأحد أن يسرق رجاءكم بل انقادوا لروح الله ودعوه يوقظُ الحُلُمَ الذي يسكنكم.”

نستعيد به ومعه ومن خلاله  جوهر هذا المفهوم الروحيّ: زمن  العودة لإنسانية الإنسان، للتسامح والانفتاح،  للبِدءِ من جديد وتجديدِ عهد المحبة مع الله ومع  الآخر. ونذكّر بدور الكنيسة النبيل، الذي تفعّله الرهبانيات والأبرشيات على اختلاف مشاربها، الكنيسةُ الجامعة التي تزرع المحبة حيث يسود التباعد وتحافظ على ثقافة الإنسان في زمن الأرقام. هذه الرهبانيات والأبرشيات،  بصمتها الفاعل، وبأمانتها اليومية، تفتح الأبواب للرجاء وتنسُجُ  المعنى في حياتنا وتُعطي  الكلمة قيمَتَها ورونَقها.

أيها الحضور الراقي، في هذا المساء نحن لا  نحتفي بالشعر بل بالإنسان

لا نبحث عن الإبداع وحده، بل عن القلب الذي يعرف أن الكلمة قد تشفي، وأن الرجاء ليس من الماضي. في أمسيةٍ تحمل عنوانُا رهيفًا:

الشعر في حياة الكاهن: فرح في الرجاء،

أتينا نحاور الحرف، لا لنجمّل الألم الذي سكننا بل لنُخرج منه  الحياة،

نعم، الفرح وسط الألم، ليس وهمًا بل نعمة،  والرجاء ليس  مجرّد انتظار سلبي، بل فعلٌ وجوديّ: هو أن نؤمن أن الله لا يزال يعمل في التاريخ.

لا اخفيكم دهشتي حين دعاني الأب بطرس عازار إلى هذه الاحتفالية تساءلت عن سبب اختيار هذا العنوان “الشعر في حياة الكاهن”، اوليس الكاهن في صومعته شاعرًا يناجي الخالق في عتمة ليله الطويل، ينشد قربه ورضاه كي يحيا في بُرءٍ من شبح الخوف واليأس؟ وما المناجاةُ سوى كلماتٍ تنبع من القلب تُنقِذُ أرواحنا وتكرّس وجودنا؟

واسأل نفسي: ما الشعر إن لم يكن لهاث الروح نحو المطلق؟

وما اللاهوت إن لم يكن محاولة الإنسان أن يفهم حبّ الله في عتمته؟

نعم الشعر واللاهوت يلتقيان: يشبه الشعر صلاة الراهب، فهو قصيدةٌ تبحث عن النور كما يبحث القلب عن المعنى. وفي حضرة اللاهوت  تُصبح القصيدة مكانًا للعبور، للارتقاء بالإيمان والتعبير عن المحبة والوجودية والتأمل في المسائل اللاهوتية، واستحضر معكم ما قيل حول الشعر في الكتاب المقدس، على سبيل المثال لا الحصر: حول سفر الحكمة وسفر يعقوب والمزامير، التي اعتبرها الباحثون طريقة مثلى للارتقاء نحو الحبّ الإلهي، ونسترجع معًا نشيد الأناشيد والإفراميات والميامر التي سعت إلى إظهار جمال الله وقوته، والتعبير عن المشاعر الإنسانية الغنيّة بالصور والتشبيهات والاستعارات التي حوّلت الحروف إلى صلوات،

حينها هَمس الشِعر في أُذُن الانسانَ مرددًا:

“أنت لست وحيدًا. الله معك، فيك، إليك.”

أحبتي، أهلاً وسهلاً بكم في أمسية “الفرح في الرجاء”.

فلنفتح قلوبنا

ولنترك الشعر يقودنا إلى الرجاء

والرجاء إلى الفرح

والفرح إلى إنسانيتنا الأجمل

تلك التي لا تهزّها العواصف، لأنها متجذّرة في الحب.

***

ختام الأمسية 

أيّها الأحبّة

وصلت السفينة إلى الميناء، إلى نهاية هذه الرحلة القدسيّة،

في لحظات كهذه، يصعُبُ على الكلمة أن تُغادر الشعر، ويصعُبُ على القلب أن يُقفِلَ بَعْدَ  أن  فُتِحَ  على هذا القَدْرِ  من الرجاء، من النور ومن الحبّ

نتوجّه بالشكر الكبير إلى ضيوفنا المشاركين المونسنيور كميل مبارك و الآباء عبدو أنطون ومارون الحايك

الذين  قدّموا لنا الشعر كصلاة

والكلمة كجسرٍ نحو ما هو أعمق

و أعادوا إلينا الإيمان بأن الفرح لا يُشترى، بل يُمنح

وبأن الرجاء ليس ترفًا فكريًا

بل حقّ الإنسان في أن  يحلُمَ  ويقوم، ويبدأ من جديد.

شكرًا لكم، أيها الحضور، لأنكم اخترتم أن تكونوا هنا، حيث تُصنع المعاني وتُحتضن الإنسانية

شكرٌ خاص أيضًا للقيّمين على هذه الأمسية، ولكل يد عملت في الصمت ليولد هذا النور.

دعونا نُغادر بكلمة طيّبة

ولنرفع معًا نخب المناسبة نخب الإنسان الذي لا يزال يبحث عن الله في القصيدة، عن المعنى في الزمن، وعن النور في الآخر

على رجاء اللقاء في أمسيات متجددة ولقاءات أخرى، وقيامة لا تنتهي…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *