سجلوا عندكم

مسرحية “بالسابع”: ذاكرةٌ لم تُروَ

Views: 47

ناهلة سلامة

أن تعود جنينًا في رحم أمك، لا بشكلٍ بيولوجي، بل كعودةٍ شعورية، وأن تحكي الهواجس المكبوتة، تلك التي تسكن ذاكرة الأمهات ولا يتحدث عنها أحد — هذا ما تفعله بالسابع (تأليف وتمثيل جو خوري، إخراج ميراي بانوسيان، على خشبة مسرح مونو)

في هذا العمل، يبتكر الكاتب أمًّا افتراضية، تجسيدًا لماضيه وحاضره، ولادةً جديدة تنبثق من رحم الوجع، من الخوف مما مضى ومما سيأتي. ليست الأم هنا مجرد بيولوجيا، بل استعارة كونية للأمهات جميعًا: من يخفن، يحلمن، يتألمن، ويطرحن السؤال المرير: “أيّ أمّ سأكون؟”

على خشبة المسرح، يتقمّص جو خوري دور الجنين المعلّق بحبل السرة في رحم رمزي. المشهد لم يكن سرياليًّا بقدر ما كان حميمًا وكاشفًا؛ إذ يحاكي الممثل خوفه وخوفنا، عندما نقرّر الانفصال عمّا كنّا عليه، لنبدأ من جديد من دون أن نحمل معنا أحكام الماضي. أن نقتل ذاكرتنا كي نولد من جديد، أن نخلع جلدنا القديم بحثًا عن هوية لا يُشكّلها الألم وحده، هذا هو قلب العرض.

يستخدم خوري ذاته كعدسة مزدوجة: كاميرا داخلية تتأمل أعماقه الناجية من مآسي الطفولة، وأخرى خارجية ترصد الأب والأم، وتغوص في تعقيدات العلاقة بينهما، متأرجحة بين الحب والخوف والإرث النفسي.
العرض لا يُشاهد، بل يُستشعر، وكأن المتفرّج يُعاد تكوينه هو الآخر، بين رحم المسرح ورحم ذاكرته. ليست أمًّا واحدة… بل كل الأمهات
بالسابع ليست فقط مسرحية عن أمٍّ متخيلة، بل عن أمومة مهمّشة، عن الألم الذي لا يجد لغة. عمل يُحرّك المياه الراكدة في اللاوعي الجماعي، ويُعيدنا إلى سؤال البدء:
هل يمكننا أن نولد من جديد دون أن نحمل رماد الماضي في جيوبنا؟
وهل يمكن أن نُشفى من أمهاتنا؟ 

 

من هي الأم في حكاية جو خوري؟

سؤال لا يغيب عن ذهنك وأنت تتابع هذا العمل المسرحي العميق، النفسيّ في جوهره، العبثي في إطاره، الساخر في ظاهره. الأم هنا ليست شخصية، بل حالة: كيان رمزيّ يحمل وجعًا متوارثًا، ومخاوف لا تُقال.
إنها ليست فقط المرأة التي أنجبت، بل الوطن، والذاكرة، والحنان، والعنف، والخوف، والصمت الذي يملأ ما بين الكلمات.

في هذا العرض الذي يغلّفه خوري بالكوميديا السوداء — سمة مألوفة في أعماله — تظهر الأم في صور متعددة:

هي الأم البيولوجية، بكل هشاشتها وقدرتها على البقاء؛

وهي الأم المجازية، التي تمثّل الحياة بكل تقلباتها؛

وهي أيضًا مرآة تعكس هشاشة الإنسان في بحثه الدائم عن حضن لا يخونه.

جو خوري لا يقدّم صورة مثالية للأم، بل يجرّدها من قداستها الموروثة، ليطرح أسئلته الموجعة:
هل الأم خائفة مثلنا؟
هل ورثنا عنها الخوف، أم أننا أورثناها إيّاه؟
هل هي صانعة الذاكرة، أم ضحيتها؟
وهل يمكن أن تكون الأم، في لحظة ما، الجاني والضحية معًا؟

هنا، يتحوّل المسرح إلى تحليل نفسي مباشر — لا يُنقّب في الأدوار، بل في المشاعر العالقة بين الطفولة والأمومة، بين الأم والأب، بين الذات والآخر.

 

بالسابع” ومأساة الوعي

ليست بالسابع عرضًا فقط، بل تجربة شعورية تُشبه ولادة ثانية — أكثر وعيًا، وأشدّ وجعًا.
فهل المسرح قادر اليوم على أن يعيدنا فعلًا إلى نقطة الصفر؟
وهل نحن مستعدّون لإعادة النظر في “الأم”، لا كرمز، بل ككائن هشّ، يعيد إنتاج الحياة والوجع في آن؟

بهذا المعنى، تبدو بالسابع امتدادًا حيًّا للتمزق الوجودي الذي يعيشه الإنسان المعاصر: جنينٌ يعلّق بين رحم الأم وعبث العالم، يسخر من ماضيه وهو يغوص فيه.
مثلُ بطل عبثي على طريقة كامو، لا يبحث جو خوري عن خلاص، بل عن لغة تحميه من الصمت. هو يضحك داخل الرحم — لا لأنه مرتاح، بل لأنه يعرف تمامًا أن لا شيء في الخارج مريح.

***

*تصوير حسين محسن

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *