شِعرِيَّة نصُّ الأغنية عند الأخوين رحباني
د. وجيه فانوس
لَئِنْ بَدَأَ “الأخوان رحباني” وضع نصوصِ “الأغنية” طيلة زهاء نصف قرن من الزَّمن، امتدَّ من منتصف أربعينات القرن العشرين، واستمرَّ حتَّى نهاية ثمانينات ذلك القرن؛ فلقد عرف التَّاريخُ الأدبيُّ للبنانُ حركة دؤوب في مجال الشِّعر. لعلَّ من العوامل الأساس، لهذه الحركة، ما عاشه هذا البلد، وما برح يعيشه، من عوامل تغيير، اجتماعيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديٍّ، طبعته بطابعها، بين سائر المجتمعات والدُّول العربيَّة، على مرِّ العصور.
يشهد النِّتاجُ الشِّعريُّ اللُّبنانيُّ، منذ منتصف القرن العشرين، لتجارب عديدة في استخدام اللُّغةِ، بشكل عام، والتنقُّل بين الفصحى والمحكيَّة؛ ضمن مواصفات رُقِيِّ التَّوصيل وجماليَّات الصُّورةِ والفكرة والتَّعبيرِ بهما. ولم يكن “نصَّ الأغنية” ليغيب عن هذه السَّاحة الرَّائعة على الإطلاق؛ فباتت “الأغنية اللُّبنانيَّةُ” مطرحاً لتقديمِ فنٍّ إبداعيٍّ عبر النَّصِّ. أصبحت هذه “الأغنية”، عبر نصِّها، محطَّاً لـ”شعريٍّ” يتألَّق به هذا النَّصُّ ويزهو، حتَّى على كثيرٍ من نصوصٍ أُخرى تنتسب إلى “الشِّعر” أو تدَّعيه.
صار”الشِّعرُ” في لبنان، نتيجة كلِّ هذا، فسحةً أدبيَّة وثقافيَّة كبرى انعكست عليها، كما تفاعلت معها، هذه العواملُ برمَّتها. وكان أنْ وجدت، هذه الأمور، في الشِّعر، مجالاً خصباً معطاءً لنموٍّ أدبيٍّ وغنىً ثقافيٍّ تَجَلِّياً في تَعَدُّدِ التُّوجهات الفنيَّة فيه وعبره، وتنوُّع موضوعاتها. ويمكن القول، تالياً، أنَّ النِّتاج الشِّعريَّ في لبنان، مثَّل، وما أنفكَّ يمثِّلُ، بؤرةً شعريَّة عربيَّة وإنسانيَّة بامتياز، اختبرت صراعات كبرى أساسيَّةً وتأسيسيَّةً بين “الموروث” والوافد” وبين “التَّقليدي” و”الحداثيِّ”؛ الأمر الذي وضع النِّتاج الشِّعريَّ في لبنان في واجهة القدرة الأدبيَّة العربيَّة على التَّفاعل مع الواقع، والسَّعيِّ إلى توفير الإبداعِ الفنيِّ والفكريِّ.
قدَّم “الأخوان رحباني”، خلال زهاء نصف قرن من امتداد تجربتهما في وضع الأغاني، كمَّاً هائلاً من النُّصوص التي أثبتت غالبيُّتها العظمى وجودَها الأدبيّ الجماليّ وبرهنت عن قدرة طيِّبة في الإقبال عليها من قبل الجمهور. ولقد كان للنَّصِّ، كما للحنِ، فاعليَّة أساس في ذيوع هذه الأغاني واستمرار تعلُّق المتلقِّي بها، رغم امتداد الزَّمن وتغيُّر الأحداث. يَنْصَبُّ الاهتمام، ههنا، على متابعةِ فاعليَّةِ ما هو “شِعْرِيٌّ” في هذا المجالِ من دون سواه؛ وذلك، متابعةً لِخُطَّةِ عمل هذه الدِّراسة، بغضِّ النَّظر عمَّا قد يكون في هذا الأمر من إجحافِ، قد تفرضه طبيعة العمل، بحقِّ تكاملٍ ما لـ”شِعْرِيَّة” نصِّ الأغنيَّة” مع “شعريَّةِ اللحن”.
لن ينصبُّ الاهتمامُ، ههنا، على موضوعِ واضعِ نَصِّ “الأغنيةِ”، باعتباره فرداً؛ قدر ما سيكون موضوعُ البحثِ قائماً على نصِّ الأغنيةِ الذي وضعه “المُرْسِلُ” وقام “المتلقِّي” باستقباله. ويمكن، تالياً وعبر هذا الاهتمام، تحقيقُ التَّجاوزِ الموضوعيّ لكلِّ ما أُثيرَ، أو يُمكنُ أن يُثار، من أمورٍ، ولو شكليَّة، عن أيِّ انفصامٍ أو تَمايزٍ بين ما هو “عاصي الرَّحباني” (1923-1986) وما هو “منصور الرَّحباني” (1925-2009)، في هذا المجال. إنَّ الغرضَ، الأساسَ، ههنا، ينحصرُ في السَّعيِّ إلى قراءةٍ لِنَصِّ “الأخوين رحباني”؛ بحثاً عمَّا في هذا النَّصِّ من حضورٍ لـ”الشِّعريِّ” أو ملامح لهذا الحضور. وهكذا، يمكن القول إنَّ ثمَّة وحدةَ وجودٍ إنسانيَّةٍ، قائمةِ بذاتها، تَكْتُبُ النَّصَّ الأدبيَّ، اسمها “الأخوان رحباني” (1947-1986)[1]؛ وهذه الوحدةُ متشكِّلةٌ من تلاقٍ عُضويٍّ ورُؤيَويٍّ وحضاريٍّ وفنيٍّ، يَضُمُّ كُلاًّ مِن إنسانينِ، بحدِّ ذاتيهما، هُما عاصي الرَّحباني ومَنصور الرَّحباني.
من المعروف أنَّ نصَّ “الأخوين رحباني” مرَّ بمحطات أساسٍ عديدة، تاريخيَّة ومضمونيَّة وشكليَّة؛ عبر مسيرته الممتدَّة من أخريات أربعينات القرن العشرين وحتَّى التوقُّف عن وضع النًّصوص من قِبَلِ “الأخوين رحباني”، بوفاة عاصي الرَّحباني في 21 حزيران 1986. وهكذا، توقَّفت تلك الوحدة الثُّنائية، المتشكِّلة من التَّلاقي العضويِّ والرُّؤيويِّ والحضاريِّ والفنِّيِّ، بين كلًّ من عاصي الرَّحباني ومنصور الرَّحباني. لقد تفاعَلَ نصُّ “الأخوين رحباني” مع المتغيِّرات الزَّمانيَّة والمكانيَّة التي وُضِعَ فيها، خلال اثنتين وأربعين سنة؛ كما تنوَّع هذا النَّصُّ بين عربيَّةٍ فصحى وأخرى محكيَّة، وتعدَّد بين توجُّهٍ عبر الأغنية والأنشودة والحوار والسَّرد؛ وكذلك بين إظهارٍ إذاعيِّ أو مسرحيِّ أو تِّلفزيونيِّ أو سِّينمائيِّ، وسوى ذلك من هذه الأمور ومثيلاتها.
ثمَّة مشكلة قد تعترض سبيل البحث؛ تتمثَّل في أنَّ شعريَّة نصَّ “الأخوين رحباني” لم تَصِل، في غالب الأحيان، إن لم يكن بكليَّتها، إلى متلقِّيها، إلاَّ مرتبطةً بتشكُّلاتِ النَّغم والأداء؛ وهي تشكُّلاتٌ قادرةٌ على توفير ما يمكن اعتباره من باب “شعريَّة” التَّنغيم” و”شعريَّةِ الصَّوت”، فضلاً عن “شعريَّة الجَوِّ العام”.
تتتمثَّل “شعريَّة التَّنغيم”، ههنا، بالتَّلحين الموسيقيِّ الذي قدَّمه “الأخوان رحباني” لنَصِّ أغنيتهما؛ كما تتتمثَّل “شعريَّةِ الصَّوت”، من جهةٍ اخرى، بارتباط تقديم النَّصِّ بصوت “السيِّدة فيروز” في أغلب الأحيان[2]؛ وكذلكَ، فإنَّ الحضور المسرحيِّ لِمُتَمِّماتِ الأداءِ وملحقاتِهِ، من ديكور ومؤثِّرات إضاءة وصوت وسوى ذلك، يمكن أن تشكِّل “شعريَّة الجوِّ العامِّ”، باعتبار ما يمكن أن توفّره هذه المُتَمِّماتُ من مادَّة ارتباطٍ بالنَّصِّ في مرَّات معيَّنة.
سيكون السَّعيُ، في هذه الدراسة،عبر تلقِّي “نصِّ الأغنية” عند “الأخوين رحباني”، من دون سواه من نصوصهم الأخرى؛ احتراماً لخصوصيَّةِ موضوع البحث. وسيكون العمل، من ثَمَّ، على استكشافٍ لـ”الشِّعريٍّ” في هذا النَّصِّ؛ وذلك باعتباره نصَّاً مقروءاً، وليس نصَّاً يؤدَّى بالغناءِ أو نصَّاً يُمَسْرَح؛ أي من دونِ الأخذِ بعين الاعتبار ما كان يُلازم هذا النَّص من عناصر قد تساهمُ، سلباً أو إيجاباً، في فاعليَّتهِ الشِّعرِيّة.
اعتمدت هذه الدِّراسة خمسة نماذج، واسعة الانتشار عبر امتداد السِّنين، بين مُتَلَقِّي تَشَكُّلاتِ فاعليَّةِ “الشِّعريِّ” في نصوصِ أغنية “الأخوين رحباني”[3]، هي، ما قد يمكن تعريفه بـ:
- شعريَّة التَّناقض.
- شعريَّة توالي العناصر التَّشكيليَّة.
- شعريَّة التَّوازي المتباين.
- شعريَّة المسكوت عنه من السَّرد.
- شعريَّة تجديد اللغة.
سينهضُ هذا العمل، تالياً، على اختيارِ نماذج من نصوص أغاني “الأخوين رحباني”، يكون فيها تمثيلاً لنصِّ أغنيتهما في بضع محطَّاتٍ زمانيَّةٍ وموضوعيَّةٍ ولغويَّةٍ أساسيَّةٍ في تجربتهما معاً؛ فضلاُ عن تمثيل تنويعات تركيبيَّةٍ (تقنيَّة) عايَنها “الأخوان رحباني” وعبَّرا عنها وبها[4]. وسيكون التَّعامل مع هذه النُّصوص بما يكشف عن تشكُّلِها التَّكويني البنائيِّ، سعياً إلى قراءةٍ لما قد تحويه من “الشِّعريِّ”، عبر منهجيَّةِ “التَّفكيك” (deconstruction)[5].
تقوم دراسة الشِّعريِّ في نصوص “الأخوين رحباني، ههنا على منهجيَّةِ مبدأ”التَّفكيك”. “يُعْتَبَرُ “التَّفكيك” (deconstruction) أكثر الرُّؤى والتَّطبيقات المنهجيَّة ارتباطاً بفكرِ ما “بعد الحداثة”(postmodernism)؛ ويمكن اعتباره منهجيَّة في قراءة “التَّلقِّي” أكثر منه منهجاً قائماً بذاته.
إنَّ جوهر “التَّفكيك”، وفاقاً لـ”جاك دريدا”(Jack Derrida)[6]، غيابُ ما يمكن أن يُعرف بـ”المركز الثَّابت للنَّصِّ”؛ مِمَّا يقود إلى أنَّ المعنى ليس مُعْطَىً جاهزاً. ويذهب “دريدا” إلى أنَّ لا حدود فاصلة بين ما يعرف بـ”لغة الادب” وما يمكن أن يعرف بـ”كلام اللُّغة؛ وأنَّ “تشكُّلات الكلام” هي ما يؤمِّن حركيَّة الكلام، التي تقود إلى فاعليّته (الأدبيَّة). ومن هنا، ينطلق تركيز “التفكيكيَّة” على أهميَّة الكتابة، وكونِها أشدَّ فاعليَّةً من الصَّوت؛ بل هي البديل من الكلام، إذ تؤمِّنُ لِلنَّصِّ تنوُّعاً في إمكانيَّات التَّفسير و تُعطي الأهميَّة الأساس للمُتَّلَقِّي. إنَّ مجالات “التَّفكيك”، كما يراها “بول دى مان (Paul de Man)[7]، تُبيِّن ما في النَّصِّ من عناصر أو أجزاء لا تظهر إلاَّ بهذه المنهجيَّة. فـ”الدَّال”، ههنا، يمثِّل “الحضور”، في حين يمثِّل “المدلول” “الغياب”؛ وتكمن فاعليَّة “المتلقِّي” في استدعاء “الغياب” المتشكِّل في تصوُّره له[8].
****
[1]– يمكن اعتماد “سنة 1947” تاريخاً لبداية تجربة “الأخوين رحباني”؛ إذ في هذا التَّاريخ التحقَ عاصي الرَّحبانيّ بـ”الإذاعة اللبنانيَّة” بصفة عازف ومن ثمَّ مُلَحِّن؛ وتَبِعَهُ، بعد وقت قليل، منصور الرَّحبانيّ. وهكذا، بدأَ اسم “الأخوين رحباني” يَظْهَرُ في هذه المرحلة، من خلال تقديم نُصوصِ أَغانٍ وتلحينها، فضلاً عن وَضْعِ أعمالٍ مَسْرَحِيَّةٍ إِذاعِيَّةٍ. كما يُمْكِنُ اعتماد “سنة 1986” تاريخ نهايةِ تجربةِ “الأخوين رحباني”؛ إذ في هذه السنة كانت وفاة عاصي الرَّحباني واستمرار منصور الرَّحباني في العمل الفنيِّ، لكن في هذه المرحلة، بإسمه وحده.
[2]– ثمَّة مغنون كثر، أفراد، مثل الأساتذة وديع الصافي وصباح وهدى حدَّاد وجوزف عازار وجوزف ناصيف، وجماعات، مثل كورس الإذاعات وكورال المسرحيات، قدَّموا أغاني “الأخوين رحباني”؛ بيد أن صوت السيِّدة فيروز كان الأكثر غزارة واشتهاراً في هذا المجال.
[3]– لا بدَّ من التَّاكيد على أنَّ هذه النَّماذج هي من باب المثال، على شعريَّةِ “الأخوين رحباني”، ليس أكثر؛ ومن هنا، فإنَّ الأمر يتحمَّلُ توسَّعاً في العرض والتَّحليل لا بدَّ من أن يجد طريقه إلى التَّحقيق في دراسة موسَّعة ومستفيضة.
[4]– جرى استخراج “النُّصوص” من تسجيلات عامَّة لأغان معروفة وواسعة الإنتشار للـ”أخوين رحباني”.
[5]– أحد أشكال التَّحليل الفلسفي والأدبي الذي جرى اشتقاقه من نشاط فكريٍّلدراسة دقيقة لنصوص فلسفية وأدبية؛ بدأ في ستينات القرن العشرين، على يد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا،. جرى تطبيق واسع لهذا التوجُّه في سبعينات القرن العشرين، من قبل أكاديميين غربيين ذوي شهرة واسعة، على رأسهم دريدا وبول دى مان وميلر فضلاً عن بربارة جونسون.
[6]– فيلسوف فرنسي، من مواليد “البيار” في الجزائر سنة 1930، توفَّى في باريس سنة 2004. تتضمَّن فلسفته جوهر النّظرة التَّفكيكيَّة التي تبنَّاها بعض ابرز نقَّاد الأدب ودارسيهفي مرحلة ما بعد الحداثة، في فرنسا وسائر العالم الغربيِّ.
[7]– منَظِّر وناقد أدبيٌّ أميركيّ مشهور، من أصل بلجيكي؛ ولد سنة 1919 وتوفي سنة 1983.
[8]– لتفاصيل أكثر شموليَّة واتساعاً حول منهجيَّة “التَّفكيك”، يستحسن الإطِّلاع على:
- Jonathan Culler, On Deconstruction: Theory and Criticism After Structuralism, Cornell University Press, 2007, pp. 110-133.
- Jack Reynolds, Jonathan Roffe, Understanding Derrida, Bloomsbury Publishing, 2004.
- Peter Baker, Deconstruction and the Ethical Turn, University Press of Florida, 1995.
- Jacques Derrida, Deconstruction in a Nutshell: A Conversation with Jacques Derrida, Fordham Univ Press, 1997, pp. 31-36.
- Julian Wolfreys, Deconstruction: Derrida, St. Martin’s Press, 1998.
- Peter Pericles Trifonas, Michael A. Peters (eds.), Deconstructing Derrida: Tasks for the New Humanities, Palgrave Macmillan, Nov 5, 2005:
- Hillis, Sovereignty Death Literature, pp. 25-36.
موضوع جميل ملفت للانتباه ويستدعي الدقة في التعامل معه من حيث كون الشاعر شاعرين في بودقة واحدة والنص بين الفصيح وبين الدارجة اللبنانية فضلا عن انماط النصوص بين نص عادي او سردي او ممسرح ، والتوفيق بين كل هذه المتغيرات النصية ليس سهلا في التعامل معها وهو جهد جميل ومحبب الى المتلقي وقد وفقت في ذلك مما اثار اعجابي وشغفي به . تمنياتي بالتوفيق الدائم مع خالص الود . ا.د. صلاح الزبيدي