حرّيّة الإقبال الطوعيّ على الموت

Views: 495

أ.د. مشير باسيل عون

إذا صدق ما يقوله العلماء في شأن الكورونا، فإنّ البشريّة مقبلةٌ على أزمنة عسيرة سيُضطرّ فيها الناسُ إلى مساكنة الموت في غير ما ألِفوه وتعوّدوه حتّى الآن. أوجزُ خلاصات العلماء في سماتٍ أربع ترتسم على هيئة هذا الفيروس المستثقل الوطأة: تحوّلُه الخَلويّ الجينيّ الشديدُ التعقّد والتعسّر، وتوهّجُ عدوانيّته وسريانُه التخبّطيّ العشوائيّ بين الناس، وتنوّعُ آثاره ومفاعيله وعوارضه في جسم الإنسان، وعصيانُه البنيويّ على الإمساك العلميّ الصارم. يكفي التأمّل في هذه الخصائص الرهيبة حتّى يتيقّن المرءُ أنّ الكورونا كيانٌ مستجدٌّ طارئٌ استُدخل على باحات الوجود الإنسانيّ ليستقرّ في أرجائها لسنوات طويلةيرتع بيننا، ويلعب بنا، ويلهو لهوًا قاسيًا من دون رقيب أو حسيب.

ليس في نظام الموجودات من خلقٍ أمْريّ فوريّ ينبثق من العدم انبثاقًا مباشرًا. فالأشياء ينفرز بعضُها من بعضٍ في سلسلة لا بداية لها ولا نهاية. لا بدّ من المجازفة خارج الأسوار العلميّة لمن يرغب في أن يفوز بتلمّسٍ آخر. فيروس الكورونا كائنٌ طارئٌ تمخّضت به سيروراتٌ بيولوجيّة شديدةُ التعقيد أفضت إلى تكوُّنه على هذه الشاكلة. ولكنّه كان في حيّز الإمكان العلميّ البيولوجيّ، شأنُه في ذلك شأنُ جميع الممكنات الذاتيّة المقترنة باختبارات الإنسان، والممكنات الموضوعيّة المرتبطة بتفاعلات المادّة. من يدري ماذا يخبّئ لنا الدهر في المقبل من الأيّام من الممكنات الفيروسيّة الأخرى الفتّاكة التي ينشط جزءٌ منها تحت مجاهر المختبرات السرّيّة، ويستعدّ جزءٌ آخر للانقضاض علينا من جرّاء الافتعالات البيئيّة والمناخيّة والغذائيّة والتصنيعيّة التي ننجرّ إليها في تهوّرٍ مجنون لا نظير له على الإطلاق في تاريخ البشريّة! حسبنا اليوم أن نعايش الكورونا معايشةً حكيمةً هادئةً مترقّبة. ولكن كيف يتسنّى لنا ذلك، ونحن في مواجهة أعتى العدوانيّات البيولوجيّة طرًّا؟

لا ريب في أنّ نِسَب الإصابات ستتخطّى كلّ التوقّعات العلميّة في جميع البلدان والبيئات. غير أنّ الأخطر هو نِسَبُ الإصابات في المجتمعات النامية أو المتخلّفة أو المضطربة. وهي مجتمعاتٌ يحيا فيها ويتنفّس ثمانون بالمئة من مجموع سكّان الأرض. أظنّ أنّ مليارًا واحدًا، على الأكثر، يعيش اليوم في ما يشبه الاجتماع الإنسانيّ الكريم، الحرّ، العادل، فيما المليارات السبعة الأخرى تئنّ أنينًا فظيعًا من رهبة الانعطاب، وهول الانحطاط، وجسامة الفساد، وجحيم الاقتتال القوميّ الدينيّ القبيليّ العشيريّ الإيديولوجيّ. لدى هذه الأغلبيّة البشريّة المعدومة، ولبنان انتمى إليها بعزم وافتخار بفضل طبقته السياسيّة الفاسدة وشرائحه الانتخابيّة المتخلّفة، إحساسٌ غريبٌ بأنّ الوقت قد حان للاختيار الحرّ بين ضرروتين قاهرتَين لا مفرّ منهما، عنيتُ بهما ضرورة الموت بالعدوى الكورونيّة القاتلة وضرورة الموت بلعنة الفقر والجوع والمرض والتشرّد والفناء المعيشيّ.

هو اختبارٌ وجوديٌّ جديدٌ ينضمّ إلى اختبارات الإنسان في مطالع القرن الحادي والعشرين. فالموت، في حتميّته القاهرة، كان في ما مضى موضوعَ الإرجاء المطلق، إذ إنّ الناس يعرفون أنّهم ميّتون أو مائتون، ولئن لم يموتوا بعد، ولكنّهم يفضّلون تأجيل النظر في المسألة. ذلك أنّ الإرجاء الفطِن الموزون هو منفسحُ الوجود الوحيد الممكن. أمّا اختيار سبيل الموت، فكان على الأغلب محصورًا في المرويّات التهذيبيّة والقصص الأدبيّة.

يبيّن لنا الفيلسوفُ الوجوديّ وعالمُ النفس التحليليّ الألمانيّ كارل ياسبِرس (1883-1969) أنّ الإنسان يختبر في مسرى وجوده ضروبًا شتّى من المعيش تتباين حدّتُها وجذريّتُها وكثافتُها ومرارتُها بتباين الوضعيّات التي تكتنف الإنسان. يتخيّر ياسبِرس بضعةً من هذه الاختبارات، ويُطلق عليها صفة القصوى. من هذه الاختبارات الحدوديّة، الشفيريّة، التخوميّة (Grenzsituationen)، اختبارُ الألم، واختبارُ الصراع والاقتتال، واختبارُ الذنب، واختبارُ الصدفة المربكة، واختبار هشاشة العالم ولا وثوقيّته، واختبارُ الموت. أمام كلّ اختبار من هذه الاختبارات يبلغ الإنسانُ الحدَّ الأقصى من إمكانات الاستيعاب والاستدراك والاسترجاع والاستمساك، إذ إنّ موادّ الاختبار هي وقائعُ لا مفرّ منها ولا حلَّ لها. من جرّاء الاستعصاء الكلّيّ اللصيق بمثل هذه الانسدادات الضاغطة، يتهيّأ للإنسان، بحسب ما يعتقده ياسبرس، أن ينعتق من أسر الضرورة ليُطلّ مجازيًّا، باطنيًّا، صوفيًّا، روحيًّا، على مشارف التجاوز والتعالي والتسامي.

يجدر بنا اليوم أن نضيف إلى هذه الاختبارات الصادمة الموقظة اختبارَ الاختيار الطوعيّ بين سبيلَين من الموت الحتميّ. فالناس الذين يحيون في مجتمعات الانحلال البنيويّ، وهم السواد الأعظم من البشريّة الحاليّة، يُلجئهم سريانُ العدوى الزاحفة إلى الانكفاء عن ميادين الإنتاج الزهيد الذي كان يتيحه لهم النظامُ النيوليبراليّ المتوحّش. على قارعات الطرُق وفي هوامش الوجود كان هذا الرهط الجرّار من الهياكل العظميّة المنهكة يكدّ كدًّا في سبيل ما يُمسك به الرمقَ من رزق الأيّام. مثل هذا الاقتصاد اللحظيّ العابر لا يستطيع على الإطلاق الانكفاء إلى أكواخ الذلّ والجوع والمرض والموت البطيء. لا بدّ إذًا من المجازفة في مواجهة سبيل آخر من الموت، وقد كَشَر عن أنيابه في هيئة الكورونا الفتّاك.

في المجتمعات المتقدّمة، كالمجتمعات الكنديّة والأوستراليّة والسويديّة والسويسريّة وسواها، تهبّ الدولةُ إلى نجدة الإنسان لتُعفيه من اختبار الاختيار العذابيّ بين ميتة الجوع وميتة الكورونا. غير أنّ الدولة ليست ملاكًا هابطًا من لدن السماء، بل ثمرةُ اختمار الفكر الإنسانيّ الراقي التي أعدّها الوعيُ المستبصر تحسّبًا لطوارئ الدهر ودواهيه ونوائبه. أمّا الإنسانُ عندنا، فما له قِبلةٌ ولا دِبرةٌ، يهيم هيامًا على وجه البسيطة، وقد استقرّ في روعه أنّه ضحيّة القدر المرسوم منذ الأزل. أهمل الدولة، وابتهج بالقبيلة وبالزعيم ابتهاج الظافر الانتحاريّ. أبطل الاجتماع العقلانيّ المؤسّساتيّ العادل، وركن إلى الانتفاع الأنانيّ الهدّام. لذلك كانت مأساة الكورونا تضرب ضربًا موجعًا في أصل نشأتها وفي ارتداد أثرها. فهي في الأصل تفتضح انحرافات الأنظومة الاقتصاديّة النيوليبراليّة المستفحلة، وفي الارتداد تُظهر التواءات الوعي الإنسانيّ الفرديّ والجماعيّ الذي يرتضي لوجوده أن ينطوي في الذلّ والعار والتخلّف والانحطاط من جرّاء عبوديّته الطوعيّة للسلطان السياسيّ والدينيّ الإيديولوجيّ.

حين يختار الجائعُ مقارعة الكورونا، مجازفًا بحياته حتّى تخوم الموت، يكون قد كفر بكلّ مباني الوجود، ولفظَ آخر أنفاس الرجاء الذي يستوطن ضلوعه. في هذه الوضعيّة الإنسانيّة الشديدة الاستعصاء، لا بدّ للفكر من أن يعيد النظر في كلّ مسلّماته ويقينيّاته ومُعتمداته. مثلُ هذا الاختبار القصيّ الشفيريّ يلامس عتبات العبث العدميّ حيث تسقط كلُّ الاعتبارات الاستيعابيّة. إذا كان الموتُ يُبطل الفكر عند الإنسان الميت، فإنّ التجرّؤ على اختيار سبيلٍ من سبُل الموت يعطّل معنى الحياة تعطيلًا قاضيًا. من الضروريّ أن يتأمّل المرءُ في النفسيّات المغتصَبة المنثلمة الجريحة التي تواجه الموت من غير أن تُرجئه، وتتحدّى الفناء من دون أن تطوّعه، وتقارع العدم في روح اليأس العبثيّ من كلّ قيم التضامن الإنسانيّ.

لستُ بقادر على مخاطبة هؤلاء الذين يرفضون الحجر الطوعيّ، وهم على يقين من أنّه يُفضي بهم إلى الهلاك. ولستُ بمؤهَّلٍ لاجتراح الحلول التدبيريّة التي تعيد إلى الناس القدرة على الانعتاق من هذا المأزق الاختياريّ وإرجاء استحقاق الموت. يداخلني شعورٌ قويٌّ من الغضب الكريه على جميع الذين أعدموا الناس سبُلَ الحياة الكريمة، وشعورٌ غريبٌ من الحزن المرير على جميع الذين ما برحوا يعشقون العبوديّة في شعائر طاعتهم العمياء لزعماء القبائل التي ينضوون إليها. أفما آن الأوان لكي يتحرّر الإنسانُ عندنا وعند غيرنا من استعذاب الذلّ، واستحسان الهوان، واستطابة الخنوع؟ لا يجوز لنا أن نحيا في استرهاب الموت، ونحن سائرون في جادّة الحياة. لا يجوز لنا أن نذبح وعينا بسيف الإقبال الطوعيّ على الموت المبكر، ونحن مدعوّون إلى اقتبال وعود الوجود.

إذا ثبت أنّ الكورونا هو التحدّي الوجوديّ الأعظم الذي سيرتسم في أفق حياتنا في السنوات المقبلة، فإنّ من أضعف الإيمان أن نُعدّ العدّة الفكريّة لكي نتبصّر في معاني الاختيار بين ميتة وميتة، وقد انغلقت علينا كلُّ المشارف والمراقي. أمّا ألزمُ الواجبات، فيقضي بأن نتجنّد كلّنا من أجل إسقاط الأنظومة السياسيّة الاقتصاديّة التي تحتقر الفرد الإنسانيّ، وتصنّفه في مرتبة الكائن القابل للاستعباد والاستغلال. لا سبيل آخر غير هذين السبيلين اللذين يتيحان لنا أن نشعر بشيءٍ من إنسانيّة راقية ما فتئت تنبض فينا نبضًا بطيئًالكي نؤمن بقيمة الحياة. أمّا إذا كان من سبيل ثالث أجهله، فهو السبيل الانتحاريّ الذي سوف يدلّنا على سلوكه المعدومون المعذّبون المرذولون الذين يحتضون بين أضلاعهم جرثومة الكورونا. هؤلاء وحدهم يملكون جرأة هذا السبيل حين سيفتدون بحياتهم هذه المجتمعات المنهوبة المتعثّرة، وذلك من بعد أن يعانقوا معانقة الوداع مجرمي الحروب، وتجّار الهياكل، وأرباب الأموال المنهوبة، وقاهري الفقراء، وسفّاحي الميليشيات، ومُذلّي الإنسان في صميم كرامته. هنا تفترق بنا السبُل، ويصبح الفكرُ وحيدًا، يتيمًا، مشلولَ العزم والإرادة، يتألّم في الخفاء من انفجار الغضب الكورونيّ الكونيّ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *