الثورة بين جهل الناس وفساد السياسيّين!
د. مشير عون
(الثلاثاء 28 تشرين الأوّل 2019)
ما من أحد يعلم علم اليقين كيف ستنفرج الأحوالُ في الساحات الثائرة. وما من أحد يعلم علم اليقين مقدار الثمن الذي سيدفعه الشعبُ اللبنانيّ من جرّاء هذا التأزّم العسير. الأمر الأكيد أنّ الحالة التي وصل إليها اللبنانيّون يُسأل عنها لا أهل المرّيخ، بل اللبنانيّون أنفسهم.
لا يختلف اثنان على القول بأنّ الاضطراب السياسيّ الذي يلازم الوطن اللبنانيّ ناشئٌ من ثلاثة أسباب أساسيّة : اختلال منطق الحرّيّة الذاتيّة والمسؤوليّة الفرديّة في شخصيّة معظم أبناء المجتمع اللبنانيّ، وفساد الطبقة السياسيّة اللبنانيّة في أغلب رموزها، ووقاحة الأنظمة العربيّة والإقليميّة المستبدّة وصلف السياسات الغربيّة، ولاسيّما في تجلّياتها الصهيونيّة العدوانيّة. هي أسبابٌ ثلاثةُ تتداعى وتتآزر وتتواطأ على إزهاق الاختبار اللبنانيّ.
لا بدّ للشعب اللبنانيّ الثائر من أن يسأل نفسه عن مثوله الدائم أمام هذه الطغمة من السياسيّين الفاسدين، على تعاقب العقود والدورات النيابيّة والمجالس الوزاريّة. فمن أتى بهؤلاء إلى الحكم؟ ومن انتخب أجدادهم وانتخبهم ويُعدّ العدّة لانتخاب أولادهم؟ هل فرض أهلُ المرّيخ على اللبنانيّين أن يبايعوا بالإكراه أهلَ الفساد من السياسيّين؟
حقُّ اللبنانيّين أن يثوروا اليوم، فيصرخوا صرخة اليأس والألم. ولكنّهم سبق لهم أن صرخوا صرخاتٍ قديمة يشبه دويُّها ما نسمعه اليوم من تأوّهات المفجوعين وتوجّعات المظلومين. التعليل المنطقيّ الوحيد لاستدامة الطبقة السياسيّة الفاسدة هو التخلّف الناشب في البنية الذهنيّة الفرديّة والجماعيّة يضرب في عمق البناء الاجتماعيّ اللبنانيّ.
أمّا فساد أغلب الطبقة السياسيّة، فلا يمكن تسويغه إلّا بالعودة إلى فساد معظم اللبنانيّين الذين يبايعون هذه الطبقة الفاسدة. في لبنان بنيةُ فسادٍ عميقة يعسر استئصالها لأنّها تمكّنت من كلّ مفاصل الجسم اللبنانيّ. الاختلاف الوحيد هو في مقدار الانتفاع حيث تَبيّن أنّ انتفاع البوّاب هو غير انتفاع الوزير. لذلك نشأت في السنوات الثلاثين الأخيرة شبكةٌ من الفساد أصابت كلّ ميادين الحياة اللبنانيّة، فأضحى معظم اللبنانيّين مدفوعين إلى التسويات الفاسدة والمواربات التحايليّة، شاؤوا ذلك أم أبَوا. والأغلبيّة باتت تشاء ذلك، رغبةً منها في تيسير أمورها التي غدت عالقة في مكاتب الإدارة اللبنانيّة المهترئة.
أمّا السبب الثالث، فليس من الضرورة التوسّع فيه لأنّ سياسة الدول الخارجيّة لا تُمليها إرادةُ الملائكة، بل جشع الجاشعين وعجرفة المتكبّرين. واتّفق أنّ لبنان حشره الدهرُ في بقعةٍ هي من أشدّ بقاع الأرض استجلابًا للنكبات. وسرُّها المربك أنّها أنجبت ثلاثة اختبارات متزاحمة في التوحيد الإلهيّ. هي أرضُ زلازل وهزّات وتصدّعات وتشقّقات تفعل فعلها الخطير في أعماق الباطن الإنسانيّ. وممّا لا شكّ فيه أنّ الوطن اللبنانيّ يغترف منعته من فرادة اختباره القابل للانعطاب. وهو لم يعرف أيَّ ضرب من ضروب الاستبداد، إلّا تلك التي تمارسها الطوائف من داخل جماعاتها. أمّا بين الجماعات اللبنانيّة، فإمّا التسوية والتقاسم المفسِد، وإمّا التواجه فالتحارب. ولا سبيل إلى استبداد جماعة وتسلّطها على الجماعات الأخرى.
يجب على كلّ ثائر في الساحات أن يدرك أنّه هو مسؤولٌ عن تلازم سببين على الأقلّ من هذه الأسباب الثلاثة، وأنّه هو المسؤول عن مثوله المأساويّ أمام هذه الطغمة من السياسيّين الفاسدين، وأنّه هو المسؤول عن فساد البنيان اللبنانيّ. ولكن يكفيه في هذه الثورة أن يدرك ويستوعب ويتبصّر من أجل أن يخرج باستنتاجات خلاصيّة تنقذه ممّا هو آتٍ علينا. فتكون الثورة قد أتت بثمارها الصالحة. (brownshvac.net)
لا تنشأ طبقةٌ سياسيّةٌ فاسدةٌ إلّا من تواطؤ شعب مُستعبَد لطوائفه وزعمائه، ولا ينهض شعبٌ من تخلّفه إلّا بالوعي والجرأة على النقد الذاتيّ. الشعب عينه يولّد الطبقة السياسيّة عينها. فإذا أراد الشعبُ الثائر اليوم أن ينقذ لبنان، فليبدأ بنفسه صباح كلّ يوم. فينفض عنه التبعيّة والذلّ والاستهتار، ويسلك مسلك الشعب الحرّ، الواعي، المسؤول. وليلتفت إلى ما يُحاك من إثم في صدر أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة. فليكن حزب الوعي هو الحزب الغالب في لبنان.