حبٌّ .. وحبّ!

Views: 445

د. جهاد نعمان

حدّثني أحد الأصدقاء الثِقات، قال: 

عدتُ ذات يوم الى بيروت من باريس حيث أقطن منذ أكثر من 26 سنة. 

في مطار شارل دُه غول، قرأ الموظف الجمركي على جواز سفري: مكان الولادة: بيروت، فسألني: كيف الوضع في لبنان؟ أجبته: لا بأس، وكل ما نتمنّاه ان يبقى، اقلّه، على حاله! 

  • منذ متى وأنت تعيش في فرنسا؟ 
  • انهيتُ للتو سنتي السادسة والعشرين. 
  • ومتى كانت المرّة الأخيرة التي عدت فيها الى لبنان؟
  • منذ شهر واحد، لكي أمضي فرصة الميلاد بين أسرتي اللبنانيّة. 

حدّق الموظّف في وجهي وهو يبتسم وقال: 

  • أيًا من البلدين تحبّ أكثر، لبنان أم فرنسا؟
  • الفرق الذي اراه بين لبنان وفرنسا، هوتمامًا كالفرق بين أمي وزوجتي. زوجتي اخترتها بنفسي، وأفتتنتُ بسحر جمالها، فأحببتها، ولكنها لا يسعها ان تنسيني أمي في أي حال من الأحوال. 

لم اخترّ أمي، ولكنني أعلم انني انتمي اليها في عمق أعماقي، ولا أرتاح الاّ بين ذراعيها ولا أبكي إلاّ على كتفها. 

أغلقَ الموظف جواز سفري وحدّق في وجهي بدهشة ثم قال: 

  • كثيرًا ما يقال ان الحياة في لبنان جد صعبة، فأنّى لك ان تحبّ هذاالبلد الى هذا الحدّ؟ 
  • هل تعني بكلامك «أمي»؟ 
  • ابتسم الموظف وقال: «لنفترض ذلك»
  • قد تكون أمي فقيرة محتاجة، وليس لديها ما تدفع به علاجي وأتعاب الطبيب، ولكنّ حنان حضنها عندما تضمني اليها ودفء قلبها عندما أجد نفسي بين ذراعيها، يكفيان لشفائي. 
  • صف لي لبنان!
  • ليس له جمال  حسناء شقراء، ولكن رؤية محيّاه تطمئن خاطري. ليس له  عينان زرقاوان، بيد ان رؤيته تشيع في نفسي الأمان. ثيابه بلا زخرف، ولكنها تحمل في طيّاتها الرحمة والطيبة. 

لا يزيّن نفسه بالذهب والفضة، ولكنه يرتدي قلادة حول عنقه، من سنابل القمح التي يُطعم بها كل جائع. نهَبه اللصوص وقطّاع الطرق وظلّت البسمة مرتسمة علىوجهه. 

أعاد الموظفُ اليَّ جواز سفري قائلاً: 

انني أعرف لبنان من خلال شاشات التلفزة ولكني لا أجد فيه شيئًا مما وصفته. 

  • شاهدت يا صاحِ لبنان الخرائط الجغرافية. اما أنا فاتحدّثُ عن لبنان المخفيّ في قرارة نفسي. 
  • أتمنّى ان تتجلّى أمانتك لفرنسا كتلك التي للبنان. أقصد ان تتجلّى امانتك لزوجتك كامانتك لأمك.
  • بيني وبين فرنسا عقد يلزم عليّ الأمانة، ولستُ ممن لا يَفونَ بالعقود والوعود وفي ودّي لو تدرك أنت ان تلك الأمانة علّمنْتيها أمي! حضن الأم أجمل المدراس وأسماها وهي علّمتني الفضيلة التي هي ابنة الرحمة والرحمة روح الله! 

***

(*) د. جهاد نعمان أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *