سجلوا عندكم

وجع وطن ينام في قصيدة جان توما

Views: 42

نيفريت الدالاتي غريغوار

( باريس)

لم أكن أود أن أكتب، لأفسح المجال وأترك الدور لغيري، ليعبر عن جمال  قصيدة جان توما  “النورس والفضاء” على موقع “الف لام” وعلى صفحته الفيسبوك في 2020-5-31، لكن سفينته تدفعني دائما للرحيل عبر أبعاد كلماته، وأعادتني الى  حنيني لوطني وغربتي التي نهشت سنوات عمري. وأعتذر ان كنت قد تعمقت أكثر من اللزوم بتفسير قصيدته الرائعة هذه، حسب شعوري الخاص، وأحلامي. وربما ابتعدت عن فحواها، لكن جمال القراءة وسره، يكمن في اختراع القارىء أحلاما من خلال كلمات الكاتب التي ينثرها على دروب الصفحات، ويترك العنان لخيالاتنا أن تغرق في اعماقنا في رحلة ضبابية الى عالم نتمناه ونبحث عنه، وكأننا أمام لوحة تجريدية لا حدود لها.

قصيدتك هذه، “النورس والفضاء” أوحت لي، بالصراع بين البقاء والرحيل عن الوطن. الشعور بالغربة والقلق من الانتماء لوطن مريض، يحتضر. (https://preciousmomentschapel.org)

لقد تماهيت بهذا النورس الحائر، الباحث عن الحرية في الأفق الواسع، والسفر الى البعيد. وليس من قبيل الصدفة أن تختار طير النورس، فهو يجمع في لونه ما بين الليل والنهار، بين الأمل والحزن، النهار والليل، الترحال والحرية والبقاء.

إن هذه القصيدة بالنسبة لي، ترمز، وتعبر فعلا عن حالة المواطن اللبناني في هذا الزمن الرديء، حيث القهر، الضياع، الإحباط والذل. هذا الوطن الذي تحوّل الى أرض غريبة، مجهولة، وقد أصبح الانسان فيه متروكا للرياح العاتية، وللعواصف الهوجاء، يتأرجح في عرض البحر في سفينة بلا قبطان.

قصيدة أدبية، تعبّر بامتياز عن حالة نفسية في زمن الوجع .

د. جان توما

 

يبدأ “جان توما” قويا يعاند الريح، ككلّ لبناني مكابر، يرفض الانكسار بسهولة امام الصعوبات، ” أتوه نورسا في مجاري المياه. أرى الريح فلا انكسر”

يخشى المغامرة والمصيرالمجهول. “أارى الموج فلا أروح مطرحا”

ويتعلق بقاؤه على بقية أمل، وعلى ركيزة شبه هشة، ” باق على جذع، أو على سن صخرة في العراء المالح خارجا الى مرمى العالم”.

هذه هي حال اللبناني، الضائع بين أمواج الحياة من كلّ حدب وصوب، بعد أن فقد الأمل من وطن لم يعد قادرا على أن يحميه، فيبحث عن الهروب، وفي الوقت نفسه، يخشى الرحيل والمغامرة في عالم مجهول.

التردد بين البقاء والشقاء مرغما، ” كيف تحفر الريشة اسمها في قماش العمر كمن يرمي الملح على الجرح؟ أهكذا تغتالني نجوم السماء، ما بين وقفة الصخر وسبيل الماء”.

صورة رائعة لهذه الحالة النفسية من وطن خذله، وجعله يتأرجح بين الخوف والانتظار . “وقفة الصخر” أي البقاء في الوطن، الركيزة، أو المغامرة والرحيل “سبيل الماء” حيث تجري المياه، نحوالنفق المجهول.

“جان توما” يتساءل كتساؤل كلّ لبناني، عن الأصحاب، عن وطن بكامله تنكّر له! “أضعت السرب والدرب” الشعور بغربة الانتماء لمكان مألوف، والقلق من فقدان الوجوه التي يعرفها وقد ضاعت في الرحيل بين المسافات وفي كلّ أنحاء العالم.

قلق الانفصال هذا، واضح، وكأن “جان توما” يعود ذاك الطفل الذي يخشى الانفصال عن أمه، الدرب، المكان، الوطن، هذا القلق الذي يصيب الكثيرين ممن يفكرون بمغادرة وطنهم، أرض أهلهم، أحبائهم، ليخلقوا من جديد في وطن غريب وفي محيط مجهول المعالم.

“جان توما” يبحث عن الأمن النفسي من خلال الانتماء الى  الوطن والى الوجوه التي الفها. فيجد دربا مشتتا، وقد ضاعت فيه الوجوه وتفرق الأحباب.

ولكن! بعد كلّ المعاناة والشكوى، يعود وكأنه كان في حلم، فيتعلق بوطنه، بمدينته الآمنة “الميناء” ويخلع عنه الوجع ،ثم يدرك أنه لا يشعر بالانتماء والراحة النفسية إلا في المكان الذي نشأ فيه، حيث جذور الأرض تشده الى حضن أمه، وطنه، تراب أرض بلاده. ” قد تسافر الى جهات الأرض كلها، لكنك لن تجد مكانا كالميناء، فيه تستطيع أن تفرد جناحيك على اتساعهما، وان تواكب حركة المحبين والصيادين….” وكأنه يعيد ترميم عالمه الصغير الذي يعيد فيه انتماءه وهويته، ليعيد الأمان الى نفسه وكيانه.  وبعد الشعور بالقلق، والتفكير بالرحيل والمغامرة،  يدرك أنه رغم كلّ العذاب الذي يعاني منه في وطنه، لا يجد راحته النفسية إلا في أرضه. ويؤكد ذاته القوية: “انا النورس، تكفيني وقفتي هنا. لي الريح والمطر والمدى، ولي العطر والصوت والصدى”. وهكذا “جان توما” جال العالم كله بوجعه، وبعد التعب من الترحال النفسي، بحثا عن هوية وطن وانتماء، أدرك أنه لا يكون سيدا إلا في وطنه، وكأنه هو الذي يعالج نفسه من قلق الرحيل، ووجد الدواء بالبقاء في المكان الذي يعرفه، والصدى والوجوه التي يألفها.

وينتفض من ركام الأحلام واليأس من المصير المجهول، ليخرج من ضباب التردد والضياع، الى ترميم الأمل المفقود، رغم غلغلته بالقلق والانتظار.

قصيدة وجدانية رائعة، وكأنها برموزها تحكي، (ربما من خلال النورس الحزين، والممثل ايضا، بشكل جميل في لوحة الفنان (زياد غالب) معاناة اللبناني، والحالة النفسية المسيطرة في زمن الوجع. والوطن الذي ضاعت دروبه، وتفتت، بعد أن كان ملاذا آمنا للمواطن.

هي قصيدة هربت من كوة اليأس، من عالم مجنون يلتهم أيامنا وكلّ عمرنا. الشعور بالغربة عن المكان، عن الأرض، غربة الوطن، والعودة الى أرض المدينة الصغيرة بعد أن جال الأبعاد بأفكاره، حائرا كطائر النورس، يبحث عن أمل خارج غلالة وطنه.

هكذا أعادني “جان توما” من حيث لا يدري، الى غربتي التي اغرقتني فيها قصيدته، غربتي التي تقضم سنوات عمري، والتي تشبه نورسا تائها بين المسافات، يائسا من التجوال والترحال ، وقد أحرقت الشمس جناحيه وهو في انتظار.

وكأن العمر أصبح حطاما. ينسج أحزان أيامي في عزلة من الزمن. والقلق يقتات حلم العودة، بدموع البعد التي تتخفي خلف وشاح الليل.

غربتي هذه، التي أيقظتها قصيدة “جان توما”  تشبه بيتا عتيقا بلا نوافذ ولا ابواب. وأشلاء أحلام العودة الى وطن ، يحتضر، وقد اصبحت شبه مستحيلة.

“جان توما” يدفعنا الى أن نفسّر قصائده  ونعيش كلماته، كلّ حسب أحلامه، ومعاناته، وتمنياته. فيجعل من كلّ منا، نورسا يتوه في المسافات، ويحلم بالعودة الى مدينته، والى وطنه، جذور أجداده، رغم طوال الترحال، واليأس من وطن طال وجعه.

فهل سنبقى كهذا الطائر الحزين ننتظر، نتردد، نحلم، الى أن يموت الحلم فينا؟.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *