الفنان محمد شمس الدين.. و”رغوة الروح”

Views: 645

أحمد بزون

كيف استطعت أن تحلّق عالياً كما تمنيت، كأن الكواكب التي ابتكرتها في مخيلتك، ودارت بها ألوان ريشتك ذات يوم ما زالت تنتظرك!

كيف استطعت، وأنت النائم على فراش المرض، أن تنخطف من بين أحبتك وأصدقائك كشهب! أن تسحب بسمتك الجميلة من المرايا والعيون، وتغادر من دون همس! وتودّع شخوص لوحاتك من دون أن يسقطوا على الأرض!

حل تحولت إلى كائن طائر كما كنت تحلم، أم تُرانا ننتظر أن يسكن جناح فتهبط إلينا من جديد!

ما أقسى أن نبكيك من بعد، فيتبخر الدمع في الطريق! أن نبتسم لصورتك، فنخجل من سواد الموت!

أن نهمّ لنحمل نعشك فتتحجر المخيلة جبل حزن!

ما أثقل هذه الأيام التي نشرتْ خبر رحيلك وجعاً هائماً خلف الجدران!

ما أصعب أن يسقط عزيز وتبحث عن قدمك لتقفز نحوه فلا تجد!

 

كيف ترحل يا صديقي مجلبباً بكل هذا الصمت، وأنت الشغوف بإثارة الغبار، أنت المتمرد الذي لا يوفر جنوناً ولا صخباً، المبدع الذي لا ينفك يستدعي الأسئلة ليرميها على أصدقائه، اللاعب بخيوط الفلسفة كمهرج.

كيف انسللت إلى عالمك الجديد من دون أن تهتز أغصان الحديقة! أنت الذي لك أصدقاء بعدد الأنجم!

هلكنا انزلاقك الشفاف.. يا صديقي وأخي وحبيبي! وأيقظت أحزاننا من سبات الأعماق.

مضيتَ لا آسفاً على الدنيا، فلطالما كانت تحدثك أحلامك أنك غريب على هذا الكوكب، أنت الذي لم تكلّ من البحث عن فردوسك في عالم آخر، في كوكب آخر، وفي مجرات أضأتها في معارضك، وأطلقت عليها أسماء غريبة لم نفهمها.

ربما استجمعت كل فلسفتك لتبرر لنفسك هذا الطيران الخفيف، فنحن لم نكن ندري أكنت تمزح أن تطرح أسئلة كبيرة عن الوجود. كنت تحرك الأفكار الكبيرة بكاريكاتورية مفرطة. تتكئ على جنونك، وتخدعه، ليصل بك إلى طبقات جديدة في الإبداع، ثم تسبح في طبقات الخيال من دون لوثة، وما نراك إلا عائداً وبيدك لوحة مكتملة.

لم نكن نستطيع أن نمسكك متلبساً بمدرسة فنية، نظنك سوريالياً فتُخرج الواقع من تحت معطفك. ونراك عبثيّاً في الظاهر ولست كذلك في سكنات دواخلك. ثم إنك كنت تقدم لوحتك كأنها كذبة، وسرعان ما يقتنع بها كثيرون. حروفيٌّ شرقي حتى العظم، لكنك تشاغب على هويتك بالتغرب، كأن العالم الذي تنشده في السموات العليا لا ينتمي ولا ينضبط بقوانين الأرض.

كم مرة كنت تستدرج كوكب الأرض لينتحر، فلا شيء يدهشك فيه، ومخيلتك لا تقع على الأرض، لذا اخترعت لطيرانك تعاويذ ورقى وزعتها على مساحات لوحتك، ثم كأن الكائنات الغريبة ألفتك فباتت مقيمة في فضائك، بل تركتَ الشياطين تلهو في شرايينك، حتى أننا كنا نشعر بأنك مشعوذ، لكن نضحك ونقول: لكن بأخلاق ونبل.

كم مرة قلت لي إن لحظة الخطر حانت، فهذا الكوكب بات هشّاً ولم يعد يحتمل، وعلينا أن نوجد بدائل تحمينا من الجحيم. ورغم أنك لم تكن مؤمنا بالمعنى الديني، إلا أنك طالما بحثت في لوحاتك عن الجنة، ربما هو بحث عن أمك، أو الكوكب الأم، في فضاء آخر، وكثيراً ما دربت ألوانك على البحث، وتركها تهيم مع مخلوقاتك، وإلى ذلك تتألق في التأليف والمخاطرات في توزيع الكتل، ولا مانع عندك أن نراك تهلوس، فلا حرج في الفن والإبداع، حتى أننا كنا نشك في أنك تبتدع أفكاراً غريبة لتحرض ريشتك على المعصية، فلا تتكئ على خطى الآخرين، ولا تستجدي أساتذة، ولا تبحث عن مريدين، مرتحلاً أبداً للبحث عن عشبة الفن، وها قد أهملت عشبة الحياة.

لا أعلم إن كنت اخترت طريقك وحسمت أمرك، عندما رسمت “ملحمة السراب” للمسرحي الراحل سعدالله ونوس، وتماهيت مع قسوتها، مثلما تماهيت مع قسوة ت. س. إليوت. ولا أعلم لماذا اخترت أن تقيم حواراً بين دانتي وعلاء الدين المعري! بين “الكوميديا الإلهية” و”رسالة الغفران”، كأنك أردت أن نجدك متلبساً في الطريق التي رسماها نحو عالم الآخرة. لم يهدأ لك بال إلا عندما تصالحت مع الآخرة التي تعشش في مخيلتك، أو الفضاء الذي يضج بالكثير من الأسئلة حول الوجود والموت. وعندما سكنت في ظلال تلك الأسئلة تذكرت أصدقاءك الذين رحلوا، فكان معرضك الأخير “شمس، والمعري، ودانتي”، وعندما سألتك من “شمس”، ضحكت وقلت “أنا. حشرت نفسي معهما لأطل بدوري على الآخرة، وأطمئن على أصدقائي الذين رحلوا وأحاورهم”، تماماً مثلما استجوب المعري الشعراء الذين التقاهم في الآخرة، وكما التقى دانتي أصدقاءه وعشيقته وحاورهم هناك أيضاً.

وماذا بعد؟ هل وصلت ورأيت أصدقاءك الذين كرّمتهم وعلّقت صورهم في عمل فني يتضمن صناديق ترمز إلى التوابيت، وتسمح طبيعته بتحريك وتبديل الوجوه؟ وماذا عن وجهك المعلق أمامنا كأيقونة؟!

لقد أتممت عودتك إلى الأرض بمعرضك الأخير هذا، تلك العودة التي بدأتها أساساً في معرض اليونسكو الشهير الذي رفعت عنواناً له “الرغبة في الأرض”، وانعطفت به، ليس من كواكبك السابحة في فضاء الغرابة وحسب، إنما من عالم الألوان الهائم في التجريد، إلى أن أمطرت مخيلتك على الأرض، بكل جرأة، بل ربما بمغامرة تشكيلية جديدة عودت نفسك أن ترتاد صنوفها. وهكذا أعدت لوحتك من المجرات البعيدة، وعرّضت ألوانك لضوء جديد، وزوّجت فنك للخطاب الفكري، كأنما صفّيت حسابك مع الماضي بمعرض مفصلي، ربما لتهز الحاضر أيضاً! لقد صفّيت في هذا المعرض ذاكرة اليسار بكل مستوياته ورموزه ومحطاته، فلاحقت فلوله، وأغلب الظن أنك أردت أن تخرج من رئتيك أثقال أنفاس سوداء، وتودّع ذلك العالم الذي مكثت فيه طويلاً.

لم تكن مرة خجولاً في إسقاط فكرة أو مبدأ أو حتى مدرسة اتبعتها ذات يوم، ففي المعرض نفسه الذي غسلت روحك فيه من الماضي أسقطت مدرسة التجريد، ولم تكن لتجد مبرراً للتمسك بأفكار قديمة وجاهزة، ولا بمدارس وأساليب.

أربعون سنة في شقاء الفن، وقرابة 16 معرضاً حفرت فيها طرقات تقود العين إلى ممرات داخل النفس، أو ترفع الحلم والتخييل إلى مدارات غريبة لا يستقر دورانها… كل ذلك، واأسفي عليك، انتهى في فراغ أسود، وحجرة صمت أبدي.

أيها الصديق الجميل المبدع المتفرد المتميز الكريم المعشوق… سوف تبقى أعمالك مرايا أحلامك الخضراء، وتبقى عيناك ضوء المرايا النقية. وسوف تنبت بسمتك أمامنا كلما اجتاحنا حزن!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *