الله الله يا أم كلثوم (1898-1975)… غنّت الحب والوطن وأطربت من الطرب عصرها وصنعته
سليمان بختي
مضى 45 عاماً على رحيل أم كلثوم (1898-1975) والحديث عنها لا ينتهي بأسراره ونوادره وآفاقه. سيرة الحب والوطن والغناء. جسر عبور من زمن إلى زمن بروح وترى لا تذبل ولا تشيخ. صوت أرّخ لزمانه ولنفسه. صوت جامع لكل تناقض وتربّع على عرش الغناء العربي لأكثر من نصف قرن. كانت صوتاً وحالة وأفقًا. نستعيد هنا مواقفها وعلاماتها وعلاقتها بالناس والزمن والفرص الضائعة. وكيف شكلت علامة كبرى في الفن والثقافة والتاريخ؟ يكفي أن نلقي نظرة على الألقاب التي منحت لها لنعرف مبلغ الدلالات: ثومة، الجامعة العربية، الست، سيدة الغناء العربي، نجمة الشرق، كوكب الشرق، صوت مصر، الهرم الرابع، شمس الأصيل، قيثارة الشرق، صاحبة العصمة، سيدة مصر الأولى، فنانة الشعب. وهذا اللقب الأخير كان الأحب إلى قلبها، وقد منحته لها الدولة المصرية عام 1972 وتوّجت به أم كلثوم حياتها.
لعلّها أول مطربة عربية حملت مشروعاً فنياً ثقافياً تغييرياً ونافست فيه مطربات جيلها والذين ظهروا قبلها وبعدها في القرنين التاسع عشر والعشرين. اختارت كيف تبدأ مشوارها الفني، وأين تنتهي فيه وأين تكون ومن تختار من الملحنين والشعراء في زمن كانت فيه الكلمة الأعلى للملحّنين والشعراء. تعلمت وبقيت تتعلم وبشغف من أول اغنية حتى آخر اغنية. تعلمت أصول الغناء وإنشاد المدائح على يد والدها الشيخ ابراهيم البلتاجي في زمن لا يمكن فيه فصل الغناء الديني عن الدنيوي. سجلت اسطوانتها الأولى في عام 1924 بما اختارته من ألحان الشيخ أبو العلا محمد وكان لافتاً أن قصيدة “الصب تفضحه عيونه” انتقتها الست من قصائد أحمد رامي الشاعر الشاب الذي لا يزال على مقاعد الدراسة في باريس والذي سيكتب لها أكثر من 137 اغنية. وكانت أول اغنية لها سجلت أعلى مبيعات هي “إن كنت أسامح وأنسى الآسية” عام 1928.
وانطلقت باتجاه عشرات الأغاني التي عرفت رواجاً ومنها مقطوعات لعبده الحامولي وأبو العلا محمد والنجريدي، لكن الأهمّ في مشروعها كان انضمام محمد القصبجي إلى صوتها وبات الملحّن الأول في فرقتها ملحناً لما يزيد على 60 لحناً. ربما جذبها القصبجي في مقترحه الموسيقي “المونولوغ الرومانسي” وهو الذي نصحها أن تلبس الفستان على المسرح وليس اللباس البدوي. وبتعاونها مع القصبجي ورامي كانت تخرج متجدّدة من مرحلة إلى مرحلة.
بعد أربع سنوات، قرّرت أم كلثوم الخوض في تجربة التلحين ولحّنت أغنية “على عيني الهجر ده” كلمات أحمد رامي وذلك إثر خلافات مع القصبجي ولم تنجح الأغنية ولم تعد الكرّة. ولكنها لبثت تتدخل في الجمل اللحنية لملحنيها بنظرة العارف والواثق وفي تبديل الكلمات.
وهي وإن طلبت أحياناً تغييراً في جمل لحنية، ربما، إدراكاً منها بطاقة صوتها على الأداء والتجلي.
ولبثت في كل مرحلة تبحث عن بدائل جديدة ومغامرات مثل داوود حسني وزكريا احمد واستمرت في البحث والتجريب واختيار الملحنين والشعراء بما يناسب مشروعها الذي صاغته من أوله لآخره. فدخل السنباطي بمقترحه الشرقي الأصيل وقالت عنه أم كلثوم “إنه توأم روحي وملحّني الخاص”. في حين قال عنها “قصة حياتي هي أم كلثوم”. ودخل بليغ حمدي بكل حيوية إيقاعه وطرب جمله. ذلك الملحن الذي وصفه عاصي الرحباني بأنه “عبقري الايقاعات العربية”.
ودخل محمد الموجي ببناءاته التلحينية الأصلية. وكمال الطويل في وحدة اللحن وتصعيده المتواصل. ثم كان اللقاء المنتظر مع محمد عبد الوهاب. وكانت بينهما جملتان ليبنى على التجربة عشر أغانٍ. قالت له: “ولكن لا تفرض عليّ في اللحن حاجات لا أستهويها”. فأجاب: “ولكن لا ترفضي الحاجات قبل ما تجربيها ثم نقرر معاً”. وهناك ملحن واحد غير مصري لحّن لأم كلثوم في مسيرتها الغنائية هو الملحن اللبناني فريد غصن والأغنية كانت “وقفت أودع حبيبي”، ولم تنجح ولم تسجل.
حفظت أم كلثوم أكثر من عشرة آلاف بيت من بيوت الشعر العربي وهذا الأمر جعلها ذوّاقة وتعرف كيف تقطف من عيون الشعر العربي. ردّت غير مرة على سؤال حول الشعراء الذين أخذوها بروعة النغم الشعري. فقالت أربعة: أحمد شوقي، الأخطل الصغير، علي محمد طه، وجورج جرداق. مع أنها لم تغنِّ للاخطل الصغير ولا لعلي محمود طه. قالت غير مرة إن أحلى ما يعجبها في رباعيات الخيام هذين البيتين: “أن تفصل القطرة عن بحرها/ ففي مداه منتهى أمرها/ تقاربت يا رب ما بيننا/ مسافة البعد على قدرها”. وانها داعبت مرة الشاعر اللبناني جورج جرداق بالقول: “أنت بتحشش… أبوك كان يحشش، حد من العيلة كان يحشش…”. فقال لها جرداق: “لا”. قالت: “مش ممكن لازم يكون في حد بالعيلة حشاش وأنت مش داري، لأن الواحد لازم يكون طالع من ألف ليلة وليلة علشان تجيه صور غريبة زيّ اللي بتقول: “هل في ليلتي خيال الندامى/ والنواسي عانق الخياما”.
أما أبيات شعراء الزجل التي لا يطالها شعراء الفصحى فتوقفت عند بيرم التونسي: “شمس الأصيل ذهبت/خوص النخيل يا نيل/ تحفة ومتصورة/ في صفحتك يا جميل/ والناي على الشط غنى/ والقدود بتميل/ على هبوب الهوا/ لما يمر عليل/ يا نيل آه يا نيل/”.
كل ذلك أهّلها لأن تتدخل في كلمات الأغنية ولتقترح وتغيّر. حتى أنها تأخرت في التعاون مع مأمون الشناوي لأنه كان يرفض أي تغيير في الكلام. فمثلاً استبدلت كلمة “شوقوني عينيك” إلى “رجعوني عينيك” في “أنت عمري” (1964). وغيّرت في الأطلال من “يا فؤادي رحم الله الهوى” إلى “يا فؤادي لا تسل أين الهوى”. (capitalfoodservices.com) واستبدلت كلمة “القسوة” مكان “اليأس” في “اسأل روحك” (1970). وفي قصيدة “رباعيات الخيام” غيرت كلمة كأس الطلا بكلمة “كأس المنى”، وكلمتي “كأس الشراب” بـ”شهد الرضاب”. واعترضت على أول بيت من قصيدة “هذه ليلتي” وأصبحت “هذه ليلتي وحلم حياتي/بين ماض من الزمان وآت” بدلاً من: “هذه ليلتي وهذا العود/ بثّ فيه من سحره داوود”. وغيرت في “أمل حياتي” (1965) من: “وكفاية اصحى على شفايفك” إلى “وكفاية اصحى على ابتسامتك”.
وأصرّت على تسمية الأغنية “دارت الأيام” وليس “عيني على العاشقين” بحسب رغبة شاعرها مأمون الشناوي وملحنها عبد الوهاب. وغيرها الكثير وكلها تبديلات ناضجة تدل على ذوق رفيع ومعرفة عميقة. وكل اغنية لديها كانت كلمة ولحناً وأداءً معمودية تعب وكد وإضافة جمالية متقنة وممزوجة بوعي عميق وبرؤية مستقبلية بشكل الأغنية وتطورها.
وأم كلثوم بعد ذلك وقبله مواقف في الفن والوطن والإنسان. كانت أول من غنّى في افتتاح الإذاعة المصرية عام 1934. وأول من أسّس نقابة للموسيقيين برئاستها في مصر عام 1943. نزلت إلى الإذاعة المصرية التي يشرف عليها الانكليز لأجل إعادة بثّ قصيدة شوقي “تؤخذ الدنيا غلابا”. غنّت للجيش المصري المحاصر في الفالوجة وبينهم جمال عبد الناصر اغنية “غلبت أصالح بروحي”. يومها كتب لها الضباط رسالة بذلك. وعلّق عبد الناصر “ستلبي طلبكم لأنها بنت جدعة”. تصدت أم كلثوم للشعار الذي رفع في نقابة الموسيقيين بعنوان “أخي جاوز الظالمون المدى” بوجه صباح ونور الهدى وفايزة، ووردة، ضد الذين طالبوا بمنعهن من الغناء في مصر. وكثيراً ما أشادت بأصوات مثل فيروز وسعاد محمد. في 29 أكتوبر 1956 غنّت نشيد صلاح جاهين “والله زمان يا سلاحي” من ألحان كمال الطويل وأصبح نشيداً قومياً. أتى كمال الطويل باللحن في ليلة حدثت فيها غارة. حفظت أم كلثوم اللحن على ضوء الشموع. ووقفت إلى نافذة بيتها تراقب غارات الطائرات الإسرائيلية بالقول: “ليتني أستطيع أن أسقطها بيدي”. وحين قررت تسجيله في محطة الإذاعة بشارع الشريفين اعترض اغلب الموسيقيين خوفاً من غارة إسرائيلية على المحطة. لكنها قررت ونفذت وهي التي افتتحت التلفزيون المصري بالغناء عام 1960.
عام 1967 ظلت صورتها ماثلة طويلاً في الوجدان المصري والعربي وهي تنزع سوارها الذهبي في حملة تبرعات للمجهود الحزبي ولأجل مصر. وجابت مدن مصر والدول العربية والغربية لتجمع التبرعات من مدخول حفلاتها. حتى أن مجلة تايم الأميركية وصفتها بأنها “سلاح عبد الناصر السري”. عندما غنّت في الاولمبيا في باريس وقف ميشال موريس (مدير الاولمبيا) ليعلن “أن 3 مغنين حفروا أسماءهم في ذاكرة الأولمبيا: أم كلثوم وأديث بياف وجاك بريل”. وفي مقابلة مع الإعلام في باريس سئلت عن أشهر نصب ستزوره في باريس؟ فأجابت: “مسلة القصر الفرعونية في ساحة الكونكورد”. وعندما سألتها المذيعة عن السبب. أجابت: “ببساطة لأنها لنا”. حضر حفلتها في باريس الممثل جيرار ديبارديو وكان في الثامنة عشرة، فكتب في مذكراته كم تأثر بما سمعه وكأن احساساً عميقاً غمر وجدانه واستبدّ به الطرب حتى البكاء. وقال انه “اعتنق الإسلام الصوفي بعد حضوره هذه الحفلة”. وبقي يتردّد على مسجد باريس للصلاة وتلاوة القرآن الكريم.
أما الراقص والمصمم الفرنسي موريس بيجار فقد عشق أم كلثوم واعتبر أن صوتها كان أحد أسباب اعتناقه الإسلام. وانه صمّم لوحة راقصة على وقع اغنية من اغنياتها. وكذلك الباحث الموسيقي الفرنسي فردريك لاغرانج الذي تعلم العربية ودرس الموسيقى العربية. بعد أن استمع لأم كلثوم واطلق على نفسه “الشيخ فريد”. أنها الصوت الذي يعبده بوب ديلان ويعتبره الصوت الأروع في العالم.
دارت شائعات كثيرة عن حياة أم كلثوم مع انه نادراً ما تجرّأ احد في صحافة مصر وإعلامها على تناول حياتها الشخصية. أحاديث كثيرة عن حب مع أحمد رامي، وحب مع محمد القصبجي، وحب مع رياض السنباطي، ومحمود الشريف. وحديث عن حب وطلب زواج من النجريدي. وحديث عن زواج عرفي مع الصحافي مصطفى أمين. وحديث عن زواج من شريف صبري باشا. وحديث عن زيجة صورية اضطرت إليها كي تتمكن من السفر في بداية حياتها الفنية. ولكن المؤكد بحسب مصادر صحافية للسنة نفسها أن محمود الشريف كان خطيبها المعلن في العام 1946 ولكنها في النهاية تزوجت من الطبيب حسن الحفناوي واستمر الزواج حتى وفاتها.
يروي الناقد طارق الشناوي أن أغنية “أنت عمري” لم تكن اللقاء الأول بين أم كلثوم وعبد الوهاب. ففي سهرة خلال الاربعينات شارك فيها توفيق الحكيم طلبت أم كلثوم من كامل الشناوي أن يكتب قصيدة في جمال الممثلة كاميليا فكتب “أن بعض الجمال يذهب قلبي بين ضلوعي فكيف كل الجمال”. وطلبت في الجلسة نفسها من عبد الوهاب تلحينها الذي اشترط بدوره أن تغنيها أم كلثوم. وهذا ما حدث. ولسوء الحظ لم تسجل تلك القصيدة.
ثمّة علاقة قوية ربطتها بالشاعر أحمد رامي فقد غنّت له قبل أن تراه قصيدة “الصبّ تفضحه عيونه” ليكتب لها عشرات الأغاني والقصائد ويصبح صاحب الرأي الأول في قصائد لغيره أو مختارات تصلح للغناء. اختلفا لفترة واتفقا لفترات. ذات مرة وبعد فترة انقطاع عنها سألته أم كلثوم “زمان ما قرأنا لك حاجة”. فأجاب: “أنا كتبت حاجة ولكن لسه ما خلصتش”. فقالت له: “يا الله سمعنا يا احمد”. فاستل رامي ورقة من جيبه وبدأ يقرأ” جددت حبك ليه بعد الفراق والأمسية..” (1952) ولما انتهى قالت أم كلثوم: “الله… اديني ايدك يا احمد”. فقال لها: “علشان ايه؟”. فأجابت: “علشان ابوسها لأن الايد اللي بتكتب الكلام ده بتنباس”.
وصفته في إحدى المقابلات: “هو كتلة روحانية من الإحساس الملهم والثورة العميقة المكتوبة والهدوء الرزين، مع ظرف نادر وخيال محلق وخاطر سريع وإخلاص لذات الإخلاص، ذلك هو أحمد رامي”. أما هو فقد وصف صوتها بأنه “رنة العود صوتها وصداها أنين الكلمات”.
في ذكرى مرور رحيلها الـ45 لا تزال الكتب تصدر عنها وعن تجربتها ويعاد طباعتها، مثل: “لغز أم كلثوم – ملامح ومواقف من حياة كوكب الشرق – للناقد رجاء النقاش. “كوكب الشرق” وهو كتاب بالفرنسية لايزابيل صياح بودي ويضم الكتاب مقدمتين واحدة للرئيس مبارك وثانية للنجم عمر الشريف. ويقول الشريف: “إن حاجة الملوك والرؤساء لأم كلثوم هي أكثر من حاجتها إليهم”. “أم كلثوم نغم مصر الجميل”. لجهاد فاضل وبرأيه أنها أشبه بملكة وقد عوملت أم كلثوم كشخصية استثنائية رفيعة المقام، إن لم نقل كملكة من الملكات كإرادة القيصر حسب تقاليد روما القديمة”.
“أم كلثوم وحكام مصر” لسعيد الشحات وقد عاصرت أم كلثوم ثمانية حكام. ويشدد الشحات بأنها كانت المطربة الأولى بلا منازع في العهد الملكي والعهد الناصري.
“مذكرات أم كلثوم” كتاب أعدّه محمد شقير من أرشيف الدوريات والمجلات القديمة والوقائع معاركها.
“أم كلثوم التي لا يعرفها أحد” للكاتب محمد عوض ويتقصّى فيه الجانب المفقود من حياتها الشخصية.
“مذكرات كوكب الشرق كما روتها بنفسها” للكاتب محمد رفعت السماعي. وفيه تلك اللقطة تقول فيها: “هناك ليلة من عمري لا أنساها. كنت اغني في النادي الأهلي وكانت ليلة عي وأقبل الملك فاروق فجأة. أحسست عندئذٍ أن في قلبي عيداً سعيداً. وإن في قلبي موسيقى تعزف أعذب الألحان وأحسست في نفس الوقت برهبة وخوف. وحرت ماذا أغني في حضرة الملك. ورحت أغني… ولم أشعر بشيء بعد ذلك، لم اعرف أين أصبحت ولا اعرف أين فشلت. بعد ذلك بأيام كنت في الإذاعة اسمع الشريط الذي سجلت عليه أغاني الحفلة واغمضت عيني ورحت اسمع، ولم أتمالك، فوجدتني أصيح: “الله… الله يا أم كلثوم”.
و”أم كلثوم عصر من الفن” لنعمات أحمد فؤاد. و”أغاني أم كلثوم في لوحات فنية” لعلي الورد. و”أم كلثوم… سيرة الحب” لمحمد عوض. و”الهوى دون أهله” – أم كلثوم سيرة ونصاً – للبناني حازم صاغية. و”أم كلثوم” لسليم نصيب بالفرنسية ونقله إلى العربية بسام حجار. و”حكايتي مع أم كلثوم” لجورج ابراهيم الخوري (2000) و”أم كلثوم صوت في تاريخ أمة” لسعد سامي رمضان، و”معجزة الغناء العربي” لرتيبة الحفني. و”أم كلثوم” لالياس وفكتور سحاب. “صوت مصر” أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع العربي – لفرجينيا دانيلسون.
وبعد هل كان لأم كلثوم حلم لم تحققه في هذه المسيرة الغنية التي تخطّت فيها اغانيها الـ3000 أغنية عن الحب والشوق والوطن. نعم ثمة حلم لم يتحقق. تروي أم كلثوم لجورج ابراهيم الخوري في كتابه “حكايتي مع أم كلثوم” أنها أقسمت عام 1953 بتسجيل القرآن الكريم بصوتها. ولكنها مع الأيام لم تحقق شيئاً مع أنها سجلت “سورة الرحمن” مع رياض السنباطي ثم توقفت. ويلاحظ الخوري أن أم كلثوم كانت تتأثر إلى درجة الدمع عندما تصل إلى البيت القائل في “سلوا قلبي”: “أنا الزهراء قد جاوزت قدري/بمدحك بيد أن لي انتساباً”. بلغ مجموع الاشرطة التي سجلتها إذاعة القاهرة وحدها 1523 كيلومتراً من الأغاني أي سبعة اضعاف المسافة بين القاهرة والاسكندرية.
وكان هناك مشاريع اغنيات قبل الرحيل ومنها “أوقات بتحلو” لسيّد مكاوي وذهبت لوردة. وقبل سفرها إلى لندن للعلاج طلبت من الشاعر صالح جودت أن يكتب أغنية بمناسبة نصر أكتوبر لتغنيها في عيد النصر. وكان هناك اتفاق على قصيدة من عزيز أباظة وتلحين عبد الوهاب لغنائها في مهرجانات بعلبك. وهناك أغنية انتظار (كلمات ابراهيم ناجي) صاحب الأطلال ولحنها السنباطي ورحلت فذهبت إلى سعاد محمد. أما آخر حفلة لها على المسرح فكانت “ليلة حب” (1972)، أما اغنيتها الأخيرة “حكم علينا الهوى” (1973) فقد سجّلتها في الإذاعة وهي جالسة ونشرت بعد وفاتها.
هذه المطربة الظاهرة اختزنت في أعماقها روح مصر والعالم العربي وشكّلت الهوية الثقافية والاجتماعية لعصرها، ولعلّ الكلمة التي قالها عبد الوهاب يوم وفاتها تعبّر عن الكثير: “بموتها انتهى عصر الطرب”. أوصت أم كلثوم أن يذهب ميراثها الفني كله لصالح بلدها مصر.