“المليون الضائع” مسرحية غير منشورة لـ”سعيد تقي الدين” (1904-1960)

Views: 579

سليمان بختي

حدث أدبي مميز في بيروت وهو صدور مسرحية غير منشورة بعنوان “المليون الضائغ” للاديب والمسرحي الكبير سعيد تقي الدين (1904-1960). وقد عثر عليها الباحث جان دايه في مكتبة بنت شقيق سعيد السيدة جمانة تقي الدين صعب ومكتوبة بالخط الأخضر الذي اعتاد سعيد كتابة نتاجه به. (وحققها وصدرت عن دار فجر النهضة في 64 صفحة).

ويرى جان دايه في مقدمة الكتاب أن هذه المسرحية كتبت في العام 1950 وانها سادس مسرحية منشورة له بعد “لولا المحامي” و”نخب العدو” و”دروب موحشة” و”حفنة ريح” و”المنبوذ”. وإن مسرحيته “قُضِيَ الأمر” التي لعبت على المسرح ومثّل أحد ادوارها رئيس الحكومة الأسبق تقي الدين الصلح لا تزال مفقودة..

 

ولكن هل من تشابه بين مسرحية “المليون الضائع” و”المنبوذ”؟ يعتبر جان داية أن في مسرحية “المليون الضائع” هناك تغيير في الاسم والقفلة وأسماء الأبطال. وانها تعتبر خاتمة مسرحياته في العام 1950 والتي بدأها في العام 1923 بـ”لولا المحامي” في حين أن مسرحية “المنبوذ” شكّلت بداية المرحلة الثانية من نتاجه المسرحي.

وفي المسرحية أجواء سعيد وآفاقه ولمساته وتفاعل الفصحى والعامية في لغته. وكذلك تعليقاته وبعض أبيات و”نشيد وطني” (بلحن بدوي) و”نشيد البحارة”. وفي هذه الأبيات يقول وجعه:

قامرت في هذي الحياة بكلما          ملكت يداي وما حباني ملاكي

ولقد غنمت فمن رآني المشتكي  ولقد خسرت ومن رآني باكي؟

والمسرحية من فصل واحد والمليون الضائع هم عدد سكان لبنان في ذلك الوقت وربما أصبحوا اليوم خمسة أو ستة ملايين ولكنهم لا يزالون ضائعين، وتكتشف وأنت تقرأ حوار المسرحية انه لم يمض عليها 70 عاماً بل كتبها سعيد من يوم أو يومين. اسمع ما يقول على لسان كامل: “هواء بيروت كله دخل رئتي وخرج منها. هواء السرايا. هواء الشركات. هواء المعامل. هواء بيوت الزعماء. رائحة عاطلة يا فهيمة. لقد إنتن صدري”. أو ما يقوله على لسان سليمان أفندي: “هذه ضربة بلادنا. الجهل. الغباوة. شعبنا شعب جاهل. غبي. خذ بياع البوظة يكسر في النهار مائة قانون”. أو حتى على لسان فهيمة حين تقول: “كل شيء برسم البيع هذه الأيام. المهم أن يكون معك الثمن”.

 

ولعلّ قوة حوار سعيد تقي الدين لا تأتي فقط من واقعيته وجرأته وسخريته ونقده الاجتماعي بل أيضاً من معاناته ودقّة ملاحظته وتصويبه على الخطأ، وعلى أساس الخطأ. يقول على لسان قبلان في حوار مع كامل: “ليست الفاجعة أن تكون شليلاً منبطحاً على كرسي، قم وقاتل من أجل رزقك وحقك في الحياة”.

وتسمع الرد من كامل يأتي بما هو أشدّ وأقسى وأدهى: “أنا شخص لا حقوق له ولا أهمية. طالب عمل يستجدي. أنا احد المتسوّلين. أنا المنبوذ. كرت توصية… كل ما احصل عليه استجديه. ورقة الهوية. استجديها. عمل على الطريق يلزمه وساطة وشفاعة. وظيفة في شركة لا تعطى إلا لمن يمسح بجبينه بعض الاحذية. لقد استغلوا كل شيء واستثمروه واختزنوا المال والسلطة وما يرشح من الخزان فصدقة من سيد لعبد. لقد نظموا كل شيء حتى يهبوك بعض ما نهبوك. ما نحن بمواطنين بل شحاذين منبوذين”. تذكير هذا الكلام كتبه سعيد تقي الدين عام 1950 ولا يزال واقع الحال كما هو وأفدح. تسمع صوت سعيد على لسان شخصياته يجلجل ينفجر غضباً: “يلعن دين ابوكم. يا كلاب. يا زبالة البشر. يا بلا حيا. يا لصوص. ولا. كعب سرماية الست فريدة تكسر رؤوسكم”. ثم لاحظ معي كيف يبتدع لهم وصفاً من كعب الدست السعتقي حين يتألم”. انتم أحقر من دودة في بطن جيفة قتلته عقصة من حيّة حرباء”.

 

ولكن لا يتوقف من توجيه سياط نقده تارة إلى الزعماء وطوراً إلى الشعب وهمّه كل الهمّ كيف نخرج من الأزمة ونكسر هذه الحلقة المفرغة. يقول سليمان افندي: “يا عمي قبلان. شعبنا شعب فاسد. الأتراك حكمونا 400 سنة. الفرنساويون حكمونا ربع قرن. علمونا السفاهة والفساد… والتعصب والطائفية”.

ويجيبه قبلان: “الناس استغلاليون، وصوليون، الغني لا يسأل عن الفقير. لا يحترمون القوانين ولا السلطة. يضعون العصي في الدواليب. وأنا كبش المحرقة. لا يوجد استقرار. البذخ – الترف. الاوتوموبيلات. بيروت صارت كاراج”. إزاء كل ذلك. ما العمل؟ وما الحل؟ وسعيد يرى عن بعد ويستشرف ويغوص. وهمّته تتسع لآمال أمّته ويصرخ على لسان سليمان أفندي: “ماذا أقدر أن افعل أنا؟ في البلاد مليون شخص مثل كامل. مليون كامل مثل كامل. كلهم ضائعون”. هل يجد كامل الضائع الحل؟ هل ثمة خلاص فردي أم خلاص مجتمعي؟

 

يقول كامل: “هؤلاء المنبوذين… سأفتش عنهم. سأقول لهم انهضوا عن مقاعد اليأس والسهو والاستسلام. سنهدم الخزان. فتزدهر الصحارى”.

ولكن قمة التصعيد الدرامي في المسرحية هي في صرخة كامل ردّاً على كلام سليمان أفندي: “أخي كل شيء في هذه البلاد فاسد. أنا مثل زهرة دوار الشمس. دائماً أواجه الضياء إنما ما العمل؟”.

وردّاً على كلام انيس باشا: قبل أن يتهدم الخزان، ثمّن علبة دخان”.

وردّاً على قبلان الذي لا يفهم ما يقال.

يقول كامل: “هو صعب فهمه لأنه واضح… في الإنسان شيء من خالقه. شيء نبيل، ثمين لم يُصنع ليهدر. لم يخلق ليرمى. ذرة من الألوهية وجدت لتنمو وتسعد وتزدهر. غير أن كل ما في الكون مترابط يسوده نظام التعاون. الغصن الذي ينشطر عن الشجرة ييبس. النيزك الذي ينفلت عن النجم يحترق ويفنى. وكامل قندول فشل لأنه قصر جهوده على منفعة كامل قندول. كنا عطاشا في الضيعة. نستلّ الماء من البئر. حتى تضافرنا على جلب الماء إلى الضيعة. فلما ارتوت الضيعة ارتوينا جميعاً. وكنا منعزلين عن الدنيا حتى بنينا طريقاً للضيعة كلها نمشي عليها جميعاً. وبقيت طريحاً على الكرسي حتى سمعت الحكمة على لسان سليمان عن المليون الضائع. سأطرق الأبواب وأجد خلف كل واحد منها. واحداً مثلي، منبوذاً، حائراً، ساهياً على كرسي. وسأقول له انسَ نفسك أيها المنبوذ، وتعال نشتغل من اجل المنبوذين. بعض الاقوال لها رنّة الرسالة، ولقد سمعتها اليوم من سليمان. بخاطركم (يقلب الكرسي) أنا ذاهب لأفتش عن “المليون الضائع”.

 

على هذا النحو ينهي سعيد تقي الدين مسرحيته. صرخة ثائر. صرخة تغيير. صرخة حق. ولا حجاب بين الدراما واليقظة والحياة. والدعوة مفتوحة لأهل المسرح في بلادنا للنهل من نبع هذا المسرحي الكبير سعيد تقي الدين وبعد 60 عاماً على وفاته لا يزال ينتج ويصارع التنين. وكان واحداً من هؤلاء الذين إذا مرّوا في الحياة أحذوا معهم الشهب والصدى والرذاذ والهالة والأثر. وترك لنا المعنى لنتفكر فيه وننهض. سعيد تقي الدين ذلك القادم إلينا من منازل الحقيقة ليثبت لنا أن حكاية الإنسان على هذه الأرض هي حكاية صراع، وان للمناقبية والمبادئ حصة المعنى في الحياة وفي ضمير الناس. لذلك كلما قرأناه (الأمس واليوم وغداً) سنردّد: “الله الله ما أشمخ العقل على العمر… الله الله ما اهزل الأيام على الذكاء”.

وأخيراً، شكراً لجان دايه الباحث والصديق على الكنز والذخيرة في منجم سعيد تقي الدين. تلك “الشكراً” التي يعرف جان دايه هاديها إلينا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *