سجلوا عندكم

فوزي المعلوف (1899-1930)… شاعر الطيّارة وشعلة العذاب وتاج تدحرج

Views: 1807

سليمان بختي

وجه شعري لبناني مهجري مشعّ له سحره وطابعه وعمقه وعذوبته. فوزي المعلوف (1899-1930) شاعر لبناني من الدوحة المعلوفية. والده عيسى اسكندر المعلوف العالم والمؤرخ وعضو المجامع العلمية العربية. وهو شقيق شفيق صاحب “عبقر” والشاعر رياض. شاعر التأمل والألم والطفولة والحب والهجرة والمرض والتضحيات والأحلام.

ولد عام 1899 في زحلة. أتقن الفرنسية وأحبّها وراسل أباه من زحلة إلى دمشق ولم يتعدَّ الثامنة. درس في الكلية الشرقية في زحلة ثم انتقل في الرابعة عشرة إلى بيروت متابعاً دراسته في الفرير. وأصدر وهو طالب في الفرير مجلة بعنوان “الأدب” وكان يكتبها بخطّه ويوزعها على صفوف المدرسة.

اشتغل في التجارة بين بيروت ودمشق وكان يكتب في الصحف اللبنانية والسورية والمصرية. أنشأ مع أسرته معملاً للحرير ولكن نفسه لم تألف العمل. توظف بدائرة الميرة والاعاشة في الحرب العالمية الأولى. عمل كمدير لمدرسة العلمين في دمشق ثم أمين سر عميد كلية الطب. هاجر إلى البرازيل قاصداً أخواله ومارس هناك التجارة والصناعة. عايش شعراء المهجر ولمس مبلغ حنّيت هم إلى الوطن وألَمَهم من جور المستعمر.

 

كتب في المهجر منتقداً العثمانيين وأبناء بلده. وكان إنتاجه زاخراً بالثقافتين العربية والغربية والمناخ البرازيلي. أتقن البرتغالية وكتب فيها بالصحف وحاضر في الأندية العربية وأنشأ “المنتدى الزحلي” في سان باولو 1922 وأقام فيه الحفلات ومثّل روايتي “سقوط غرناطة” و”ابن حامد”.

عرف بكتاباته وبرز ذلك في ملحمته التي لم يكملها “شعلة العذاب”. أما أشهر آثاره فهي ملحمته الشعرية “بساط الريح”، والتي وصف فيها جمال الشرق الروحي مقارنةً بجماد الغرب.

وبرأي النقّاد تعتبر ملحمته من أهم الآثار العربية الحديثة التي جمعت سمو الخيال والهدف وروعة الشعر بحسب جورج صيدح. وقد ترجمت إلى سبع لغات.

توفي في عز شبابه إثر عملية جراحية عام 1930 وخسر الشعر العربي طاقة شعرية يصعب تعويضها. عكس شعره تقلّب النفس المعذبة وشجن القلب الحزين. ذاك الحزن الغامض الذي اخذ قلبه إلى بلبال وعقله إلى بحران. وإذا كان من فضل لأحد في شعره فهي عائلته وحزنه وحنينه وزحله.

 

ولكن لم يظهر حزنه في شعره كشعور فحسب بل كفلسفة في الحياة. ولا شك أن تأثير أبي العلاء المعري كان واضحاً عليه وكذلك رباعيات الخيام وهو كتب غير مرة “تعب كلها الحياة وهذا/ كل مال فيلسوف المعرة”. يذهب فوزي المعلوف في سفر إلى أعماق المعنى كاشفاً عن معنى جديد. كان صادقاً ينتقد المظاهر في الحياة ويسميها الأعراض الخادعة. ولعلّ رومانسية فوزي المعلوف ولو تفاعلت مع الرومانسية العربية والغربية إلا أنها بقيت أصيلة ومتفردة. يقول: “يا يراعي ما زلت خير صديق/ لي منذ امتزجت به وستبقى/ باسماً من تعاستي حين أهنأ/ باكياً من تعاستي حين أشفى”.

(رسالة إلى والدته*)

احتفظت والدة فوزي المعلوف السيدة عفيفة ابراهيم بعدة رسائل من نجلها فوزي وبقيت بحوزتها 45 سنة حتى وفاتها، وواحدة منها مؤرخة في 1 تشرين الأول 1921 وهو بطريقه إلى البرازيل، يقول فيها:

“سيدتي الوالدة الحنون لا عدوتها

اكتب إليك هذه الرسالة من غرفتي في اللوكندة والساعة لا تتجاوز العاشرة ليلاً. وقد انفردت لوحدي كما أفعل أكثر الليالي تاركاً المدينة وضوضاءها. مختلياً بنفسي طائراً بروحي وافكاري إلى بلدي إلى مهد طفولتي، وملهى شبابي حيث تقف هذه الروح هائمة فوق أعزّ مكان لديّ وهو منزلي الذي انتمي فيه. فأراكم بعين الخيال. أنت وسيدي الوالد وحولكما الإخوة الأعزاء. فأتمنى لو أنني لا أزال صغيراً… أتمنى كل ذلك ولكن وأسفاه بعيد عني. وما أنا غير غريب لا أم تواسيه ولا أباً يحنو عليه ولا اخوة يلاعبهم. ولا أهل يحبونه ويحبهم… كلما جئت مرة إلى فراشي اذكر الليلة الأخيرة التي قضيتها في البيت وأنت بجانبي في الفراش تبكين وابكي! وتضمينني إلى صدرك وأضمّك إلى صدري! وما أحلى هذه الذكرى وأمرّها على قلبي”.

 

لقّب بشاعر الطيارة وفي ملحمته يسامر النجوم ويصادق الكواكب وصولاً إلى روح نورانية لا تعرف المطامع.

اسمعه يخاطب فؤاده: “يا فؤادي وأنت مني كلي/ ليت حكمي يوماً عليك يصح/ فيك كنز لم تعط إلا قليلاً/ منه والحسن لا يزال يلح/ إن جود الفقير بالنزر جود/ حيث جود الغني بالوفر شح”.

شاعر متين فوزي المعلوف يعرف أسرار اللغة في شعره ويعرف كيف ينطلق من التقليد إلى التجديد وفي شعره دعوة إلى التحرر من القيود التي تشدّ الإنسان إلى الاستعباد.

عارض فوزي قصيدة “كاريزفون” لأحمد شوقي في قصيدة تفوّق فيها على شوقي ونشرت في “المقتطف” القاهرة ولما قرأها الشاعر خليل مطران حتى قال: “كأن فوزي كان حاضراً وشوقي غائباً عن مصر”. فامتعض شوقي وقاطع خليل مطران زمناً.

قال عنه عميد الأدب العربي طه حسين: “مرّ فوزي مرّاً سريعاً ولكنه نزل في النفوس صدى يتردد منها حلواً لاذعاً محرقاً معاً. ولا اعرف إني تأثرت بشاعر كما تأثرت بهذا الشاعر الشاب حين قرأت قصيدته “على بساط الريح” فاهتزّت لها نفسي اهتزازاً، وما أرى إلا إني سأقرأها وسأجد في قراءتها هذه اللذة المرّة التي يحبها الأديب حين يقرأ الشعر الجيد الرائع الجميل”.

نذكر من مؤلفاته المطبوعة: “على بساط الريح” بالعربية والبرتغالية والاسبانية. رواية “ابن حامد” أو “سقوط غرناطة” ط أولى، العصبة الأندلسية في سان باولو والثانية في بيروت 1956. و”ديوان فوزي المعلوف” 1957. ومن آثاره النثرية أيضاً بعض القصص التي نشرها في مجلة والده “الآثار”. ومقالات نشر بعضها في الصحف بعنوان “على ضفاف بردى” وفي جريدة “حرمون”. وصدرت منتخبات من شعره ونثره بعنوان “فوزي المعلوف – مناهل الأدب”.

 

وثمة مؤلفات لم تطبع ولا شيء يبرّر عدم طباعتها نذكر منها: “من قلب السماء”، “صفحات غرام”، “على ضفاف الكوثر” و”الحمامة في القفص”، و”مجموعة شعره الوطني والفكاهي”.

كُتبت أطروحات جامعية كثيرة عن تأثيره في الشعر العربي. صدرت أعماله الكاملة في بيروت عام 2004. ويقول الناقد عبده وازن: “أما مشروعه الشعري فيتجلّى بالنزعة الرؤيوية التي تميّزت بها قصيدته “على بساط الريح” حيث يقترب أن يكون شاعراً ميتافيزيقياً وكان بعيداً من مضارب الفلسفة والثقافة الفلسفية”.

أخيراً، استطاع فوزي المعلوف الذي تمرّ اليوم تسعون سنة على وفاته أن يحفظ موقعه المميز في حركة الشعر النهضوي وذلك لعمق تجربته وحداثة تعابيره ورحابة ثقافته. ولعلّ غيابه المبكر حرمه من ترسيخ تجربته في الأدب التأملي الرؤيوي، ومن الحفر أكبر وأوسع في تاريخ الشعر العربي الحديث. ويقول الشاعر والأديب جوزيف صايغ (ابن زحلة) “إن فوزي معلوف لو اعطي عمراً لكان ابداعه أكمل ودوره أفضل”.

أزيح الستار عن تمثاله البرونزي المنصوب في حديقة الشعراء في زحلة في 12 أيلول 1937 ونال وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب بعد الوفاة بحضور ممثل رئاسة الجمهورية.

يوم وفاته رثاه شقيقه الشاعر شفيق المعلوف فقال: “وطفقت ابحث عنه في التراب/ تاج تدحرج عن جبين أبي”.

ورغم العمر القصير إلا أن تاجه بقي عزيزاً مضفوراً على هامة الشعر العربي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *