سجلوا عندكم

أنتظرُ فراغًا

Views: 886

د. غادة السمروط

    أغمضْتُ عينيّ لأمحوَ العالمَ منّي، وأعودَ إلى فراغٍ كنتُه، فجاء العالمُ كلّه إليّ. تزاحمَتْ فيَّ الصّور، وضجّتِ الأصواتُ في أذنيّ. أهي كلماتٌ أم عطرٌ وألوانٌ تجوبُني وتتكاثرُ فيّ بين اشتقاقٍ ومترادفٍ وجناس؟ كلّما حاولْتُ أن أمحوَ واحدةً، برزَتْ على صفحةِ الوعيِ فيَّ أخرياتٌ، تتناغم فيما بينها وتتضاعف وتتنافر. قلتُ لي: لا شيءَ يساعدُني في رحلتي إلى الفراغ إلّا الرّيح، أُعوّلُ عليها، هي الّتي لا تعوّلُ إلّا على ذاتها. أنا الّتي أشبهُها وأختلفُ عنها، أنا المترحّلةُ دومًا، لا سكونَ لي ولا مُستقرّ. هي الرّيحُ أراها تجلو صفحةَ الآتي، لا سطرَ عليها ولا حبر. سوف لن تخذلَني، فتمحو كلَّ صفحاتِ كتابي، ويصبحُ مثلَها، لا مرئيَّ فيه، وأعودُ لأبدأَ من جديد.

    انتظرْتُ هبوبَ ريحٍ، وأسلمْتُ نفسي إليها، فإذا بها تهبّ فيَّ، وتعصف بالكلماتِ والألوان، وبكلّ ما فيهما من عبَق. ورأيتُ كلّ ذلك يربو ويتنامى، يفيضُ فيَّ داخلًا وخارجًا، حتّى كِدتُ أغرقُ. رأيتُ أنّه لا يمكنني أن أمحوَ كلمةً واحدةً من دفترِ سنيني، وأنّ القلمَ دائمُ الكتابة دون أن يأخذَ بيدي، وأنّ الرّيحَ تضاعفُ نشاطَه، فيروحُ ينسجُ نصوصًا يضيفُها إلى أُخَرٍ، ويعيدُ نسجَها جميعَها، فتمتدّ خيوطُه وتتشابكُ حولي، كما شركٌ تصعبُ النّجاةُ منه. تدخلُ فيه الرّيحُ وتنفخُ في عبابِه، فأحسبُني كرةً لا تهدأ، تمتلئُ بكلِّ ما يتقاذفُها، يمسكُها أو يرميها.

     ملأتْني الخيبةُ، وأيقنْتُ أنْ لا فراغَ أعودُ إليه أو أصيرُه، وأنّ صفحتي عجينةٌ دائمةُ الاتّساع، يحرّكُها “شوبكُ” الحياة، لا ترفضُ امتلاءً، إلى أن” تُشلّعَها” الرّيحُ وتسقطَ في الليل !! 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. ملأتْني الخيبةُ، وأيقنْتُ أنْ لا فراغَ أعودُ إليه أو أصيرُه،

    الاقتباس الاروع