سجلوا عندكم

عصير الليمون يحيي المكنون

Views: 465

د. جان توما

ماذا بقي من هذا التراث المملوكيّ ومتفرّقات من الآثار الفينيقيّة والبيزنطيّة والإفرنجيّة والعربيّة؟ وماذا بقي في عيون هذا الطفل الجالس على كرسيّ من خيزران وقشّ لمستقبل ملاعب صباه؟ وماذا بقي من دموع هذا الساقي في إبريقه لبيع عصير الليمون المضمّخ بزهر فوّاح؟ وماذا سنترك للساكنين في داخل المدينة العتيقة من قدسيّات ذاك الزمان المعجون بما يرطّب الحلق في أزمنة الظمأ؟

خربوا طرابلس القديمة، يوم حمّلوا نهر قاديشا أو أبو علي جريمة طوفانه وخراب المدينة عام ١٩٥٥، وعاقبوا مجراه  بمسرى باطونيّ، وقد كانت ضفافه تزدان بالجسور الحجريّة، وأماكن السكن المقنطرة التي ترتاح أمامها المصطبات المائية، والمساجد ووادي الكنائس والتكيّات الصوفيّة.

ما زال باعة السوس وعصير الليمون والجلّاب يطوفون في تلك الأحياء المقدّسة، وقد غابت التقاليد والعادات، كيوم تحويل بركة الملّاحة في السوق في ذكرى المولد النبويّ الشريف  إلى نبع من المرطبات المحلّية، فيبلّ السائر حلقه شاكرًا المولى على نعمة التعاضد والتكافل والتعاون بين شرايين “الأحياء” و”دروب الأحياء” في الداخل.

كم وضعوا الخطط لرفع الضرر الحاصل لهذه المسالك وبواباتها وخاناتها وساحاتها، وكلّها لم تبصر النور. في هذه الدروب الداخلية، قلب طرابلس، التي إن سقطت في الإهمال سقطت طرابلس كلّها، وإن استعاد هذا الداخل رونق تاريخه الهندسيّ والعمرانيّ والإنسانيّ دبّ النبض الحيّ في أوردة المدينة تكاملا مع ساحة التل والنجمة والكورة وبساتين الضمّ والفرز وغيرها.

لم يقتحم بائع الليموناضة البيوت بل القلوب. صوته يعلو إيقاع الرتابة والسكينة. تعيد رنّة تساقط عصير الليموناضة في كاساته النحاسيّة ألق ما مضى. يحمّل عينيك صور من كانوا هنا؛ الذين رفعوا القناطر، وحدّدوا أبواب المدينة من باب الحديد إلى باب التبانة وغيرهما، وصولًا إلى أسواق الصاغة والنحّاسين انتهاء بالخانات.

غريب كيف يتخلّى أهل البلد عن هويّة بلدهم، وغريب كيف يتقاعس المسؤولون عن دعم حياة الساكنين في الداخل، والأغرب كيف بقيت أسواق  هذا البلد صامدة، ربّما لأن من أقامها، على أنقاض ما كان، عام ١٢٨٩م، رفعها شهادة على البناء الهندسي الراقي لنتذكر تاريخًا مشرقًا في زمن التخلّي عن تاريخية طرابلس وحضارتها في عصر الإهمال والتجاهل والانهيار.

صورة من صفحة طرابلس الخاضر…. ذكريات لا تنسى- ١٩٤٠

 

 

وصورة البركة زودناها بها مشكورًا الشيخ الدكتور ماجد درويش.

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *