الروائي الياس الديري همّه الأوحد هو الوعي: “مرعب جدًا بحر الجهل الذي يحيط بنا”
وفيق غريزي
إن انتماء الكاتب الاجتماعي واتجاهه العقائدي، لا يمكن أن يدرسا فقط من كتاباته، بل في الاغلب احيانا، من الوثايق غير الادبية المتعلقة بسيرته الذاتية، فالكاتب مواطن وله رأي في المسائل ذات الاهمية الاجتماعية والسياسية، وهو ايضا لا يتأثر بالمجتمع فقط، بل يؤثر فيه. والفنان عامة والروائي خاصة ليس مهمته مجرد اعادة صنع الحياة وحسب، وانما تكوين لها ايضا، فقد يصوغ الناس حياتهم حسب نماذج الابطال وبطلات من صنع الخيال، والروائي الياس الديري، تمكن من فهم الحياة، وخبرها، وعانى منها، فانعكست هذه المعاناة في اعماله، وجراء اعماله الروائية اطلق عليه لقب “قصّاص الخيبة”.
خيبة الانتماء الوجودي
لقب “قصّاص الخيبة” لم يرض عنه الديري، ويعتقد ان هذا منحى بعض رواياته، وهي تعبر عن خيبات في الانتماء، في الايمان. في الحب، وفي الحياة، ولكن هدا لا يعني انه قصّاص الخيبة، وليس راضيا على هذه التسمية، وان من اطلق هذه التسمية قد اخطأ في ذلك، ولا سيما اذا كانوا يظنونه قصّاص الخيبة فقط.
ومما لا شك فيه ان للخيبة مجالا وفسحة كبيرة في رواياته، حيث نجد في معظم رواياته ابطالا يعانون من خيبة الانتماء الوجودي. والحقيقة ان الروائي يخلق ابطاله ونماذجه ولا يأتي بشيء من فراغ، فتجربة الكاتب تلعب دورا اساسيا في ذلك. وتجاربه التي لعبت مدى كبيرا في تكوين عالمه الروائي تكوّنت من تزاوج عميق بين الاثنين.
قال نابليون بونابرت: “الكلمة تخيفني اكثر من الرصاصة”. وهل للكلمة التأثير نفسه في هذا الزمن الرديء؟ يقول الروائي الياس الديري: “أنت اجبت عني يا صديقي وفيق، في هذا الزمن الرديء لا احد يخاف حتى من الرصاصة، لكن يظل من يعتبر الكلمة فعلا محرابا مقدسا بالرغم من كل الانهيارات الثقافية والاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، وانهيار القيم في بعض المجتمعات، ومنها المجتمع اللبناني، ما زال للكلمة حرمتها ومكانتها وفعاليتها.
بين العمل الروائي والصحافة
ثمة من يتساءل: “أي من حقلي العمل الروائي والعمل الصحافي يحقق المبدع ذاته؟” ولكن الروائي الديري دخل الصحافة ككاتب، وليس مجرد صحافي، وهذا العمل هو تعبير عن رأي اكثر مما هو تعبير عن الذات، التعبير عن الذات لا يمكن أن يكون إلا عبر الفكر والمعاناة والخلق الحقيقي والابداع، لا يمكن إلا عبر الرواية. ولم يعرف الديري كيف دخل عالم الكتابة، ولكنه يؤكد انه وهو حديث السن وجد نفسه وهو يكتب رواية لا قصة قصيرة، وبدأ ينشر نتاجه في صحيفة “النهار”.
ومن المعروف ان شهرة المبدع شاعرا او روائيا يرتكز بالنسبة الى البعض على تحصيله العلمي الاكاديمي وعلى الموهبة، الشق الاول من هذا القول خاطئ وعار عن الصحة، فجبران خليل جبران وايليا ابو ماضي كان تحصيلهما العلمي الاكاديمي ضعيفا جدا، وبلغا شهرة واسعة، فالمهم هو العطاء، والثقافة، ولهذا ركّز الياس الديري على الثقافة في حياته، وقد عرف بأنه من القراء الممتازين، وينتقي قراءاته بشكل مكثف. إن العبقرية والنبوغ توأما الكوخ الحقير. ويرى الديري أن في هذا القول مبالغة، ولديه شخصيا امثلة في مجتمعاتنا في لبنان او خارج لبنان، مشيرا الى ان هناك كتابا من الارستقراطيين في فرنسا مثلا، او حتى في لبنان، والديري لم يكن ابن كوخ، ولكنه ابن معاناة اجتماعية لاسباب ليس لها علاقة بالغنى او الفقر، ولكن هؤلاء استثناء اما القاعدة فهي ان العبقرية والنبوغ توأما الكوخ الحقير لا القصور.
حالات انخطاف وعالم روائي
في مرحلة الفتوة كانت تنتابه حالات من الانحراف الروحي في مغارة “مورينا”، فكان يترك الكتب ليكتب، وقد مرّ بفترة مرض، وانقطع عن الدراسة، بسبب عجزه الصحي، وفي مرحلة النقاهة التي استمرت حوالي السنة، كان بحاجة الى مكان يجد فيه السكون النفسي فاكتشف مغارة “مورينا” التي هي مزار مقدس في ضيعته، وبدأ يكتب قصة “صخرة الميعاد”.
ولكل رواية من روايات الياس الديري موضوعاتها، ولها عالمها ونماذجها وخصوصيتها. وفي احدى رواياته يقول: “ان المهنة روتين يقتل، وبالحس الانساني”، وهو يوفق بين المهنة وعمله المهني لان بيئة المجتمع وضيق العمل السياسي في لبنان، وانعدامه تقريبا يجد الروتين بطيئا. وليس هناك شك في ان الحوافز تتراجع، ولذلك يتراجع الابداع او العطاء لدى الكاتب او الصحافي. ولقد احتلت المرأة حيزا كبيرا في حياته وادبه. وهناك امران يشغلانه في الحياة، الانتماء، والمرأة، وبقيا حتى نهاية الحياة.
موقع الرواية اللبنانية في خريطة الرواية العربية
الفن الروائي جديد علينا نحن اللبنانيين، لان مناخنا ليس مناخا روائيا، بل شعريا، ولهذا يقول الديري: “نجد في كل بيت لبناني رجالا او شاعرا شعبيا، حتى لو كان امّيا، الشعر لدينا يعود الى عوامل اجتماعية وطبيعية، وجلساتنا على كؤوس الشراب والطعام اللبناني الشهي، تفجّر قرائح الزجالين، ويتبارون”، وبالمقابل ليس لدينا سردية قصصية او “حدوثة”، لدينا خيال يفجره واقعنا. انما في جيلنا والجيل الذي سبقنا بدأ تأسيس فن الرواية في لبنان، على امل ان يتطور اكثر فاكثر. اما قواعد واسس الفن الروائي فمقومات هذا الفن، من وجهة نظر الياس الديري هي: “الرواية ام الفنون، الكاتب الروائي، خالق حقيقي، يمكن ان يخلق الشخصية، وينطقها، ويعمل لها سيمياءها التجربة ومزاجها، واهواءها، العمل الروائي صعب جدا”. وللذين يريدون ان يطرقوا ابواب الفن الروائي يقدم الاديب الياس الديري نصيحة مفادها تعزيز مخزونهم الثقافي. لان هذا المخزون من اهم الاسس وان يبتعدوا عن الادعاء، ويتحلوا بالتواضع واغناءالتجربة والابتعاد عن الغرور لانه قاتل الطموح والتطور. (https://www.apolloclinic.com/)
واقع الثقافة العربية، والهموم الانية
نعيش في اجواء انحطاطية على مختلف الصعد، ونكاد نصاب بها نحن ايضا، هنا انعدام انفتاح ثقافي، ليس مجرد قراءة تعني الوصول في التجربة العلمية الينا، ووصول تجربتنا الى العالم، علينا ان يكون بيننا وبين الاخرين حوار دائم، وهذا الحوار يكاد يكون منعدما على الصعيد الثقافي العربي، عشرات الكتب العلمية والثقافية والفنية ممنوعة من دخول معظم الدول العربية واذا استمر الوضع على هذا المنوال فعلى ثقافتنا السلام.
وثمة هم واحد، هو الوعي، الوعي الاجتماعي والوعي الانساني، هذا ما يهم الياس الديري، الذي يقول: “مرعب جدا بحر الجهل الذي يحيط بنا، وهذا يشكل لي هما، وقلقا كبيرا، همي ان يجتاز مجتمعنا هذا الواقع القائم”…