جودت حيدر ضمير الفكر والثقافة، بعد 13 سنة على رحيله

Views: 640

د. كلوديا شمعون أبي نادر

“هو الشعرُ قصيدةُ الكائن”، كما يقولُ Heidegger ويضيفُ “: تُبنى الصَيرورةُ على الأساسِ الشعري”. والشاعر جودت حيدر، عاش ثلاثةٍ أرباعِ قرنٍ قبلَ أن يَخُطَّ مسارَهُ الوجوديّ شعرياً.

هذا الشاعرُ الشُمولي، يُذكّرُني بِ Santiago  بطل قصّة L’Alchimiste، للكاتب Paulo Coelho. وهذه الشخصية رمزٌ لمِنَ يَتْبَعُ قلبهَ، كما ويَتَتَبَّعُ إشاراتِ الحياةِ لِيِنْسُجَ أُسطورَتَه. وجودت حيدر ليس بعيداً عن المسارِ الجلجامِشيّ في سَعْيهِ إلى الحقيقةِ وتَشَبُّثهِ بالخلودَ. 

والرَابطُ بين هذين البطلين، Gilgamesh, Santiago نداءُ السَفَر، وقد غداً سِفْر تكوينِ نُضْجِ من أَحَبَّ الحياةَ بشغفٍ، رُغْمَ المِحَن، إذْ أَدركَ أنَّ لِكُلِّ إنسانٍ مَهمَّةً في الحياة، أَلا وهي بناءُ صَيْرورَتهِ.

من اليُتْمِ في لبنان، إلى الأناضول، ثم إلى باريس، وبعدَ فرنسا، إلى نيويورك. وبعد عَوْدَتِه إلى لبنان، وبالتحديدِ إلى بعلبك، شَهِدَ هذا الماردُ ثوراناً شعرياًاعْتَمَلَ في قَلبهِ وعَقلهِ طيلةَ خمسةِ عُقود. ويقولُ في هذا الصددِ البروفسور منيف موسى “: والشِعَرُ معه فيّاضٌ، هديرٌ يرتفعُ عموداً سابعاً في بعلبك، يُطاوِلُ برُجَ إيفل” الباريسيّ، “وتِمثالَ الحريةِ النيوُيوركي”. وعن بعلبك قال وجودت حيدر “: هنا تَموتُ الأيامُ ويَموتُ الإنسان، وتبقى عُمُدُ البَقاءِ مع الزمانِ قيثارةَ الريح”. 

 

جودت حيدر، أيا كبيراً من بلادي، من مُحافظتي، ومن قضائي، أنا البقاعيّة، والسرعينيّة، أَتَعَمْلَقُ بكَ، حين أَذْكُرُكَ. أَشمحُ بطبْيبتِكَ، وتَرَسُّلِكَ للتسامُحِ والمحبّةِ، وتَجَنُّدِكَ لإِرساءِ السلامٍ، أينما حَلَلْتَ. والتسامحٌ يَتَطَلَّبُ فِكراً عميقاً، ومَنحىً فلسفياً، وثقافةً رَحْبَة، ونَهما مَعْرفياً، ونِضالاً وُجودياً، دِفاعاً عن كرامةِ الإنسانِ وحُقَوَقِه.

 جودت حيدر، وكما يقولُ الدكتور دياب يونس: “تَجودُ، وتُجيدُ، وتُجّوِدُ”، شَعرُكَ وجدانيّ، وطنيّ، إنساني، وحِكَميّ. أما قُلتَ:” في شِعري سكونٌ فلسفيّ، ومحاولَةُ اقْترابٍ من الحياةِ الرُوحيّةِ، والَتأمُلّية، وفي المُقابِلِ، لَستُ من هُواةِ الهُروبِ من الواقعِ، أو الإسْتِغراقِ في الخيال”.

أيُّها الشاعُرِ، حَمَلْتَ لبنانَ في تَرحالِكَ، كصخرةٍ سيزيفيّة، عِلّةُ وٌجودِكَ هي، وقُبلَةُ إيمانِكَ. وطالما أَنَّ الشَعرَ يَعكُسُ الحقيقةَ البِدْئيّة، كما يقولُ Heidegger، فالتَجَذُّرُ، كما يقولُ Thoreau ، ضمانةٌ وتَعبيرٌ عن المنطقِ العَموديّ. فالإنسانُ كالنبتةِ، والأفكارُ لا تنمو إن لم تَتَوغَّلْ جُذورُها في التُربةِ، كما أَنَّ التَجَذُّرُ يَجعلنا على اتّصالٍ دائمٍ بالواقع. لا بُدَّ من كِتابةِ العالمِ شعرياً. ففي رَحِمِاللغةٍ الشعريّة يتناغَمُ العالمُ مع الأَنَوِيّة.

أيٌّها المُبدِعُ، أيُّها الحضاريُ بامْتياز، غُربَتُكَ القَسْريَّةُ شَيَّدَتْ قَصْرَ شَدْوِكَ، بِساطاً سَندِبادياً، نَفَخَ الرَوحَ الإسْتِيْلاديّة في صَقيْعِ الغُربة. لقد شِئتَ أن يكونَ شَعِرُكَ كونياً، فَطَرَقْتَ بابَ الماورائِيّاتِ ومُعْضلةٍ المدى والزمن. والزَمَنُ يُحَتِمُّ نِهائِيَّةَ الإنسان. وكما يقولُ Pascal  “: الإنسانُ نُقطةٌ تائِهةٌ بين لانِهائِيتّين”.

 جودت حيدر، امْتلَكْتَ الأَمكنة، إلاّ أنّكَ تَشَلَّعْتَ بين فَرحِ البدايةِ ويَأسِ النِهاية. وَحْدَهُ، إِنسانُكَ الداخلي خَلُصَ من هذِه الحتميّةِ المُفِجعَةّ.

أيُّها الشاعرُ، مسكونٌ أنتَ بالزمنِ الاّ إنِعِكاسيّ. وفي ديوانِكَ :مئةُ قصيدةٍ وقصيدة”، أكثُر من شَاهدٍ على شاهِدةٍ لَوْعَتِكَ تقولُ “: خُلقِنْا من الَعَدم، ومُنْتهانا العدم” (ص110) – وتقولُ “أُنظرْ مِرآةِ حياتِكَ، وابْقَ واعياً ومُتُنُبّهاً للظُلمةِ التي تَنْتَظِرُكَ” (ص 128) – وتُضيفُ: ويَهمُسُ الزمنُ : لمَ المجيء، ثُّم الرحيلْ؟ وُتجيبُ الطبيعةُ “: لا نَهْبِطُ في الحياةِ إِلاّ لُنِقْلِعَ بطريقةٍ أفضل” (ص 136).

وتَساءلتَ “: من نحنُ؟ أين نَذْهَبُ؟ في تَفقِ الزَمن، حيث تتدافَعُ أجسامُنا المُدْماةْ، دون أَمَلٍ، دون خيار” (ص186). إلاّ أّنكَ وَطِئْتَ الموتَ بالموت، حين قُلْتَ:” جميلٌ أن نكون طائرِ الفنيق، لِنُولَدَ من رَمادِنا” (ص240).

 

جودت حيدر، أراكَ طِفلاً تَوَدُّ اْرتِداءَ عَباءَةَ الزمن، لا بل تَحلُمٌ بتَماهٍ كاملٍ مع الزمن، فَتعودُ بي الذاكرةُ إلى شعرِ Trakl، وجاء فيهِ أنّ Elis (وهو رمزٌ للشاعر) يعيشُ، ويُشِعُّ في زمنِ الزمن. وسُقُوطُهُ وِلادةٌ مُتَكَرَّرَةٌ، ومَغيبٌ فَجريٌ، وماضٍ غابِرٌ لما لم يُولَدْ بعد. هَو الزمن المُنْجَبِسُ، والما قَبْلُ الآتي. أما قُلْتَ: “كم أَتوقُ لأَسرُجَ حصاني وأطيْر / أعودُ إلى دربِ الحياةِ لأَسْتِعَيدَشبابي / ها أنا أَعْبُرُ تَعْريشَةَ الزمنِ، والشكوكُ تَتصارعُ في رأسي / ليتني أستطيعُ أن أَتَسلَّقَ سُلُّمَ السنين / وأعودُ إلى الوراءِ، وأنا سائرٌ إلى الأمام”.

جودت حيدر، كَلمتانِ – مُفتاحانِ شَكّلَتا لازِمةً ذاتَ أبعادٍ رمزيّةٍ وفلسفيّة: البحرُ والزورق. فالبحرُ رمزٌ لِديناميكيّةِ الحياةِ، حيثُ الولادات والتحوّلات، والولادات المُتجدّدة. فالبحرُ رمزٌ للحياةِ والموت، ورمزٌ للمغامرةِ الواعدة، وهروبٌ من واقعِ مُحْبِطٍ أو مُخَيِّبٍ للآمال. والبحرُ يعني السفرَ، أو السَعْيَ إلى الحقيقةِ والسلامِ والخُلود. رمزٌ هو للتطوّرِ الروحيّ والفِكريّ. فالسَفَرُ الحقيقي في داخلِ الإنسانِ كطائرِ السيمورغ في سَعْيهِ نحو جبلِ قاف، وما إن وصلَ إلى القِمّةِ، نظرَ إلى مرآةٍ مُشِعّةٍ، فرأى نَفْسَهُ. لا تكتملُ الدائرةُ المقدّسةُ إلاّ حين تلتقي الذَاتُ بالذاتِ وقد تَوَشَّحَتْ بقَبَسٍ إلهيّ. أمّا الزورقُ فهو الوسيلةُ المُتَوَسِّلَةُ رَجَاءَ القيامة، واخْتراقَ كُنْهِ اللاّمعلوم، وإماطةَ اللِثامِ عن قُدسِ الأقداسِ. قُلتَ: كُنتُ وما زِلتُ صوتَ نفسي وواقعي المحيطَ بي. أنا أَحْبَبْتُ البحرَ وتَعَشَّقْتُهُ، وحَفِلَ به شِعري، إِسْتَنْبَطتُ منه التأمُّلَ والحِكمةَ، ولطالما سافَرْتُ على كَفِّهِ.

البحرُ يُطِلُّ على اللاّنهاية، والزَمَنُ يَتَجَسَّدُ في البحرِ؛ معًا يَقُصّانِ عالَم الطُفولةِ، حيث تُمَّحى الجاذبية، وتُخْنَقُ في مَهْدِها كَلِمةُ “نهاية”.

أيُّها الشاعرُ، تَعْلَمُ جيّدًا أنّ ما من زمنٍ خارجَ الإنسان – وَحْدَهُ يَفْقَهُ الماضي، ويَعيشُ الحاضِرَ، ويُؤسِّسُ للمستقبل. والشاعرُ، كما كُل مُبْدِعْ، يُوهَبُ مَلَكَةْ الخَلْق. وخَيالُهُ يبني عوالِمَ أُسطورِيّة، تُزِيحُ عَتْمةَ الواقعِ وحائِطَ الخَيْبَةِ لبُرهَةٍ من الزمن. هو الشِعرُ اسْتِحضارٌ لما بين البَيْنَين، للحَدّ الفاصلِ بين الواقعِ والمُرْتجى، بين المادةِ والرُوح، وللدَهْشَةِ القابِضةِ على العقلِ، ريثما تَعودُ دَقّاتُ القلبِ إلى سابقِ عَهْدِها!

جودت حيدر، قُلْتَ: “أنا الآن فوقَ جِسرِ الزمان”. لا بَلْ أنتَ والزمانُ تَوأمٌ سياميٌ، أَعْطَيْتَهُ معنىً حين سَكَنْتَهُ، لَوَّنْتَهُ بقَوْسِ قُزحِيَّةِ عطاءاتِكَ، وجَعَلْتَهُ يَعْتَنِقْ طُموحاتِكَ. أُرْقُدْ بسلامٍ، فأنتَ باقٍ في ذاكرةِ كُلِ من عَرَفَكَ، وعَشِقَ شِعْرَكَ. وَحْدَهُ إبداعُكَ انْتَشَلَكَ من العَدَمِ، وحَفَرَ إِسْمَكَ في سِجِلِ الخُلود. أما قُلْتَ: “إذا بَلَغْتُ ذُرايَ اليومَ / سأجتازُ حُدُودَ الزمنِ / لِأَكْتُبَ إسمي على جِدارِ الغَد”.

***

 (*) رئيسة مجلس الفكر

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. جودت حيدر، الشاعر الذي كتب عن معظم المواضيع التي نعيشها. إنك حي في قلوبنا وفي أشعارك المعاصرة للواقع. إنك فعلا الشاعر الذي يتخطّى حدوده.