سجلوا عندكم

سعيد عقل في تأبين نعيم بربر منذ 49 عامًا: “متى قَدِرَت يومًا جزمة اللّبناني أن تَخِبَّ على صدر إسرائيل سآخذ ذكراك معي وأشُكّ العلم اللّبناني في تل أبيب” 

Views: 2785

د. محمد نعيم بربر 

 

 *إلى روح والدي “أبي محمد نعيم بربر” رحمه الله، وطيّب ثراه: 

تِسعٌ وأربعونَ سنةً، تكاد تُشَارِفُ على الخمسين، وما زالت ذكراكَ يا أبي تفُوح بالعطر والطّيب كأزهار الربيع وأشجار الصنوبر، حيث وقف الكبارُ في يوم ذكرى مرور أسبوع على وفاتك من ربيع عام 1972م، رحِمكَ الله وطَيّبَ ثراك، لكي يتحدثوا عنك ويستذكروا مآثرك وسجاياك أمام الحشود الغفيرة من أصدقائك ومحبّيك وعارفيك وأبناء بلدتك الأوفياء وأبناء بلدات الجوار الكرام. كان بين هؤلاء المُتَحدّثين الكبار سماحة الإمام السيد موسى الصدر، شاعر لبنان الكبير الأستاذ سعيد عقل، سيادة المطران أندره حداد، الأستاذ الجامعي الدكتور إبراهيم كوثراني، المُربيّ الأستاذ حسين الحاج، المحامي الأستاذ يحيى وردة، الشيخ الفاضل الأستاذ محمد نجيب زهر الدين.

 إنني أودُّ اليوم تكريمًا لذكراكَ يا أبي رحمك الله، أن يشاركني الأصدقاءُ والمُحبّون والأهلُ في الإستماع إلى كلمة الشاعر الكبير الراحل الأستاذ سعيد عقل رحمه الله، على أن يسعفني الله أيضًا لتقديم باقي الكلمات الخالدة للمشاركين الكبار في حفل التأبين المذكور بإذنه تعالى.

 

سعيد عقل والشاعر محمد نعيم بربر

 

 

كلمة سعيد عقل

كلمة الشاعرالكبير الأستاذ سعيد عقل في ذكرى تأبين المغفور له والدي الفقيد

نعيم محمد بربر رحمه الله، في قاعة النادي الحسيني ببلدة جون بتاريخ 25/3/1972م :

 

يَعزّ عليَّ اليوم أن أرثيَ الذي كان ضِحْكَةَ هذا الجبل، كان فَرْحَته. لَكَم مِن مرةٍ وأنا ذاهبٌ إلى دير المُخّلص كنت أعرّج عليه. قِيلَ في تلك الزيارات إنها كانت تكبِّر بيته، لا يا صديقي أبا محمد كنّا نحن نكبُر ببيتك، كنّا نحن نفخر لأن لنا صديقًا في مثل هذا النبل وفي مثل هذا الوفاء.

 في يومك هذا وقد احتشد كلُّ شريف، لأنني لا أتصور أن أحدًا من الحضور ليس شريفًا. كلُّ الناس قد يكونون زيفًا إزاء بعضهم البعض إلا إزاءك. كنت الإخلاص، كنت الشّرف، كنت النبل، كنت العصاميّة، كنت لبنان. قال فيك الأب أندريه إنك قطعةٌ من لبنان. لا يا صديقي أبا محمد كنت لبنان كلّه. تعالَ أُبرهن لك على ذلك. قيلَ فيك إنّك أميٌّ. ألأميُّ عاجز ولبنان اليوم عاجز. لكنّك صرت شهيرًا كنارٍ على رأس عَلَمٍ. أنا آمل أن يصبح لبنان مثلك يومًا قادرًا يلطمُ على خده فيردّ اللّطمة لطمتين. اليوم لبنان لا يفعل ذلك، يا صديقي أبا محمد، بدأت متواضعًا، بيتك أميّ فاذا في بيتك مكتبةٌ لا يَعمرُ بها أحيانًا بيوت رؤساء دولتنا. أنا عرفت رؤساء جمهوريّة كان يُنغِّصُ قلبي عندما أدخل قصورهم فلا أجد فيها مكتبةً. أمّا أنت فكنت تفخر أنّ مكتبتك عامرة في البلد الذي أطْلَعَ “بيبلوس” التي منها كلمة “Bible” أي الكتاب المقدّس. في البلد هذه ينبغي أن يكون أبومحمد، لا رؤساء الجمهوريّة الذين ليس في بيتهم كتب. أبو محمد أنت مثال اللبنانيّ لا سواك. كنت متواضعًا فوصلت إلى حيث يقال فيك: كلّ الناس تحبّ أبا محمد ، ما أروع أن يقال هذا في لبنانيّ، إنّه ثروةٌ لنا. أنا أفاخر إن ذهبت إلى نيويورك أو إلىباريس أن أقول في وجه أيّ عظيم: إنّ في بلادي رجلًا، على مفترق طرق بيتهُ، ما من أحدٍ في الدنيا إلا ويحبّه. هذا الكلام يا صديقي الغائب الحاضر يَصْدُ قُ فيك وقلّما يَصْدُقُ في سواك.

سعيد عقل

 

 يا صديقي، لكمْ أطْربني أن تُرثى بالأشعار التي رُثِيَ بها الحسين، وكمْ أطْربنيِ أن يُقال فيك تلك الكلمات التي رُئِيَت فيها النِّصال تتكسّر لتغطي وجهه العظيم. أن يُؤتَى على ذكرك مع ذكر كبير الشهداء لهو فخرٌ لنا جميعًا، وما من مرّةٍ أحسستُ فيها المسيحيّة والإسلام يتوحّدان إلا في يوم وفاتك، ذلك التوحّد الرائع البهيّ. كُنتُ أرى الدموع في أعيُن رفاقي هنا كما أرى الدموع في عيني أنا عندما يُؤتى على سَجَايَاك.

يا صديقي الذي بدأت صغيرًا، وانتهيت كبيرًا وستكبُر الآن بعد موتك في القلوب أكثر ممّا يظنّ الناس. يا صديقي وَدَدْتُ مصيرك يكون مصيرًا للبنان. لبنان الذي استلمناه بعد الإستقلال، والذي ستصير إسرائيل بإزائه قائمقاميّة بإزاء دُويلة، ها نحن بعد ثلاثين سنة، هي دولة بحجم إيطاليا تصدّر الطائرات ونحن عشيرة تصفعنا هذه الدولة ولا قدرة لنا على الردّ. تسلّمنا هذه الدويلة من فرنسا وكان الغرباء لا يعدّون بالمئات ، الغرباء اليوم الذين لا يتحسسون معنا بلادنا هم مليون وستماية وعشرون ألفًا، أي بمقابل مئة لبناني ثمانية وخمسون غريبًا لا يحبون لبنان. مع أن رقم الخطر كما تعرفه إنكلترا وسويسرا وفرنسا، رقم الخطر أربعة، فان تعَدّى الثلاثة قامت سويسرا بطرد الغرباء. نحن لا حيلة لنا أن نقول للغرباء: إذهبوا على بركات الله وليبقَ لنا منكم ثلاثة بالمئة أي نحو 75 ألفًا نُعيِّشهم ونقدر أن نُعيّشهم كما نعيش نحن. لا، لا قدرة لنا على إبقائكم فقراء، هذا غير خَلِيْقٍ بالمروءة اللّبنانية. . . لا، إن مئة لبناني لا يقدرون على إعاشة أنفسهم وإعالة ثمانية وخمسين معهم، هذا شيء هو الذي يخرّب كلّ شيء في لبنان وهو الذي يجعل الحكم في لبنان غير قادر على التّصرف لبنانيًا. نحن مغلوبون على أمرنا، نقول ما لا نقصد، نتصرّف كما لا تريد يَدُنا. 

 يا صديقي أبا محمد، أنتَ كنتَ غير لبنان هذا، كنتَ لبنان ذاك، كنتَ لبنان صور وصيدا، ذلك الذي فتح المعمورة وأقام إمبراطورية عُظْمى على الكلمة الصادقة. بدأت صغيرًا وكبرت، متى هذا اللّبنان الصغير يَكْبُر مثلك. 

 يا صديقي، تَعْمُرُ بك، تَعْمُرُ بنا، تَعْمُرُ بأصدقائك دارُك. لا، بل بِمَثَلِكَ الحيّ سيعمُرُ لبنان، ومتى قَدِرَت يومًا جزمة اللّبناني أن تَخِبَّ على صدر إسرائيل، سآخذ معي ذكراك وأقول لست وحدي اليوم أشُكّ العلم اللّبناني في تل أبيب، إن معي رجلاً وطالما نادى قلبه الكبير أن يكون لبنان قادرًا، عظيمًا، منتصرًا. 

 يا أبا محمد، عَهْدٌ علينا، متى كَبُرنا أن نَجِيءَ إلى الجنوب النبيل ونقول له جئناك أحرارًا ومعنا ذكرى ابنك البار الكبير أبي محمد… 

سعيد عقل

*ملاحظة : بعد نشر هذه المقالة على موقع ( ألف لام ) الإلكتروني، سيتم نشرها لاحقًا على صفحتي ( فيس بوك ـ الشاعر محمد نعيم بربر )، مع تسجيلٍ صوتي للكلمة المذكورة أعلاه، بصوت الشاعر الكبير سعيد عقل في حينه في بلدة جون ــ الشوف بتاريخ 25 / 3 / 1972م. 

***

(*) الصورة الرئيسية “صورة مركّبة” لـ سعيد عقل ونعيم محمد بربر

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. كلمة رائعة جدا، اختصرت أسطورة عملاق مر في قريتنا وكان له تأثير كبير في قلوبنا طيب الله ذكره واسكنه فسيح جنانه