سجلوا عندكم

اللعبة البلاغيّة في “عندنا الآهة والأغنية” لشوقي أبي شقرا

Views: 73

أمين ألبرت الرَّيحاني

في حديث سابق مع شوقي أبي شقرا سألته كيف يفسّر لغته الشعريّة. أجاب: “هي لعبة بالنسبة لي. بل هي لعبتي الشخصية التي ابتكرتها، أو اخترعتها، تمامًا كما كان يصنع أولاد الضيعة، قديمًا، ألعابهم بأيديهم”. ويبدو أن جواب شوقي قاطعٌ وحاسم في ذهنه، إذ انّه يرتاح لهذا الجواب الذي يفتح نافذة واسعة على كل نتاجه الشعري. كيف تتجلى هذه اللعبة في مجموعته الجديدة، “عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى”، الصادرة لدى “دار نلسن”؟

اللعبة

من أين جاء شوقي بفكرة اللعبة؟ إنها، إضافة إلى ألعاب الطفولة وألعاب الضيعة، واستمرارٌ تعبيري لهما، وللألعاب المصنوعة بأيدي الأولاد، وبمواد يجمعونها مما يصادفون في الحقول والبراري والساحات. وهي تحمل طابعها الشخصي، الذاتي، المتفرّد. هي لعبة لا تشبه سائر الألعاب، ولا تشبه ألعاب الآخرين، كما لا تشبه أبدًا الألعاب الجاهزة، الخالصة، والمعلّبة التي يعرفها أولاد اليوم. لعبة شوقي بموادها، وبأشكالها وألوانها وتراكيبها وتحرّكاتها، بشروطها وأصولها وقواعدها ولغتها، بل لغاتها، من الألعاب التي لا تشبه إلا صاحبها. فصاحب هذه اللغة يستعملها، يلعب بها، يقذف بقطعها، يجمعها، يُفَرِّقها، يُرَكّبها، يُفكّكها، ويبني منها هندسات ومنحوتات كلامية لا نعرفها من قبل. يعجنها ويصقلها ثم يعيد بناءها أو تراكيبها بصيَغ مختلفة وكأن “الباتامودليه” بين يديه لا تعرف حدودًا في هدم وإعادة البناء، ليأتينا، في كلّ مرّة، بتراكيب جديدة، وعلاقات جديدة بين عناصرها، لم نكن لندرك خصائصها سابقًا.

شوقي لا يستريح مع لغته وحسب بل تراه يكتشف من خلالها قدرات خيالية، وطاقة متخيّلة، لا سابق له بها، ولا أرض عذراء داسها من قبل، إلا من خلال لعبته اللغوية التي تمدّه بكل القدرة الخلّاقة وكلّ الفعل الإبداعي الذي، بين يديه، حيث تستحيل إزميلًا لا كسائر الأزاميل، وريشة لا كغيرها من الريشات، وقلمًا بمداد خاص، وبحبر بلون جلدته ولون مسامه، وطعم مفرداته.

وللعبته شروط وأصول مطلوبة كي يتقن الشاعر لعبته ويتقن القارئ فهمه لهذا الشعر وتذوّقه لإبداعاته غير المسبوقة.

شروط اللعبة

الشرط الأول: أن هذه اللعبة لا مثيل يشبهها، لا نسخة منها موجودة عند أحد، ولا يمكن لأحد أن يتقن اللَّعِب بها إتقان صاحب اللعبة. فمن يريد أن يأتي بمثلها فلا يمكنه، في أحسن الأحوال، إلا أن يأتي بما يشبهها ولا يمكنه أن يملك اللعبة ذاتها أو أن يتقن فن اللعب بها إتقان صاحبها أو تمكنه من التقيد بشروطها.

الشرط الثاني: أن هذا اللعبة لا تتقيد بأي شرط تعبيري، قديم أو حديث، واقعي أو فوق واقعي، بل لا يمكنه تكرار ذاته وتكرار لعبته أكثر من مرة. فهذا الشرط يتطلّب من الشاعر أن ينهي ذاته بذاته في كل مرة يقدّم لنا لغة جديدة، طازجة، فريدة، نادرة، في هذه المجموعة الشعريّة أو تلك. فالشاعر ينتهي بانتهاء مجموعته الجديدة. إذ يعود لِيَلَدَ ذاته ويسترسل بها ضمن شروط لعبته اللغوية المستحدثة.

الشرط الثالث: أن يراعي مادة لعبته طواعيةً وليونةً وتبدلًا في الشكل واللون والمضمون، لأن “باتامودلِيه” هذه اللعبة ليس مصنوعًا من مُعَجّنات بلاستيكيّة أو معدنيّة غبّ الطلب، وغبّ القواعد القديمة، أو حتى شروط الحداثة المعاصرة، بل إن عجين هذه اللعبة مصنوع من “حَوّارة” الصورة الشعريّة الطالعة من “لحية الليل” أو “مسرحيّة الفراشة”، أو “رمح البرغشة”، وعجين هذه اللعبة مجبول بـ”دلغان” الفكرة الحداثويّة المولودة من رحم الغربال الذي “يغربل خطايا الزجاج”. 

الشرط الرابع: أن يمعن الشاعر اللاعب في أن يتجدد من مجموعة إلى أخرى، ومن مرحلة إلى مرحلة، تجدده من قصيدة إلى قصيدة. فصاحب لعبة مثل هذه اللعبة، لا يملك إلّا أن يتسلّح بسلاح المفاجأة والتعبير غير المتوقع، أو غير المسبوق، فأبجديته لا تقف عند “أبجدية المطبعة” أو “مقصلة العتمة”، أو “كومة السيوف” لأن الشاعر “يجلب البحر من عنقه” بعد أن يصادف “الأخوين البرق والرعد”. أو انه “يتمرّد ليشتري الغابة”، رغم أنه “فقد الصنارة على شاطء الملكوت”.

شوقي أبي شقرا

 

أصول اللعبة

لئن كانت لغة شوقي تَتّبِع أصول لعبته اللغوية فنلاحظ أن:

الأصول الأولى: منطق لغة الشاعر يكمن في كسر جميع مدلولات المنطق اللغوي والعقلي والشعري. لماذا؟ لأن شاعر “الآهة والأغنية”، شأنه في العديد من مجموعاته السابقة، كسر القاعدة، كسر المألوف، وكسر المتوقّع. من هنا أن شاعريته تنبع من فكرة الاستعارة، مكنيّة كانت أم تصريحيّة، ولكن بتجاوز أنواعها وأشكالها القديمة والحديثة، إلى جديد الاستعارة الحاملة الصدمة في طيّاتها. فهو يتطلّع “إلى النملة فارسةً تركب العظام”، و”إلى القطة تسرق نجمةً من فلك الغيبوبة”.

الأصول الثانية: تحويل المبتذل إلى طرافة وصورة غير متداولة. أي البحث عن إضافة شعريّة، عن قشعريرة مختلفة، وعن خفقة جناح يشتاق إلى الحريّة. لذلك “قمحتي تكره الميزان”، ودكان الشاعر “يبيع الغميضة” و”دفتره يكتب رسالة الآخرة”، وهو “يصلّي حتى الحصول على كوكب تائه”، “والقصّة في الحي الأخوت في الأتون في مرجل الجنون”.  

الأصول الثالثة: إطلاق العنان لحريّة الكلمة التي ترسم صُوَرَها الشعرية كلوحة تستنطقك، تستعطفك، تحاصرك، إلى أن “يقف الليل بالشورت”، و”يذرف نهوند الصباح كبرياءً”، و”يصمت الصمت حدادًا”. حريّة المفردات، وحريّة التراكيب، تنقلك إلى فضاء آخر، إلى عالم آخر، وإلى رؤيا مركّبة، متداخلة، متشابكة، فهي تُهَيئ القارئ للتوغل مع الشاعر في الفضاء الرحب الفسيح الذي لا مكان له لإعادة ما كتبه السابقون، وله كلّ الأمكنة لما يكتبه اللاحقون، لِنَصّ التجريد،  بنبضٍ آخر، وتنهّد آخر، ودفق شعري “يراقص بهجة الرسول” و”يلاطف قياس الحنين”.

الأصول الرابعة: ربط اليأس في ناعورة الأماني، ناعورة الأرض الجديدة، وحَراك الفضاء الجديد، إذ لا بأس قي اللفظة الحائرة، في الأغنية الحائرة، في الحقائب الحائرة “بين الجسر والمركبة”. الشاعر، في هذه الأصول، يحمل الرؤيا، رؤيا العالم الجديد، “كما طفلته الزنبقة”. فلا بد من رؤيا تطلع من “وضوح البرق”، و”تمشيط الجدول” و”نجمة الكبرياء”، و”بُحّة الوتر”. رؤيا الشاعر إسراؤه  المفاجئ، ومعراجه الحافل.

اللعبة البلاغية

ليس المقصود باللعبة البلاغية ما تعارف على تسميته تاريخيًّا وكلاسيكيًّا بالبلاغة، باستعاراتها المختلفة، وصولًا إلى علم البيان وعلم البديع وعلم المعاني. المقصود، هنا، قواعد البلاغة، إن كان لها من قواعد معيّنة، بمدلولاتها أو معانيها المحدثة، وإمكان مقاربتها مقاربات جديدة نابعة من “اللعبة اللغوية” أو “اللعبة البلاغية” عند شاعر كبير من شعراء الحداثة كما عند شوقي أبي شقرا.

إذا أخذنا “عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى” نموذجًا هل يمكن أن نستخلص من هذه المجموعة الشعرية الجديدة بعض القواعد لما سماه شوقي لعبته اللغوية؟ هل يمكن أن نحدد بعض تلك القواعد لِـ”لعبة” شوقي المفضّلة؟ إنها محاولة قد تساعد في فهم شعر شوقي بتحديد الآتي:

القاعدة الأولى: إعادة توزيع أدوار المفردات والتراكيب والحروف والحركات، أو إعادة النظر في دور الأبجديّة: يصوِّر الشاعر بعض حروف اللغة مُضفيًا عليها أفعالًا غير مألوفة أو غير معروفة في سياق ربطها بتلك الحروف والمفردات، وكأنها أفعال معروفة في سياق الوظائف اللغويّة لتلك الحروف: “وعزيزتي الألف تصاعدَت على قيثارتي إلى معلمتي إلى الكوخ حيث الياء لا تجوع”، و”حيث الخبر والمبتدأ يغتسلان من الأشواك”. يوغل الشاعر في هذه “القاعدة” اللغوية ليؤكد أنّ “العادة سوف تطلع كالشمس وتدعس على قادوميّة الأبجديّة”. كما تتوغّل لعبةُ البلاغة بين الكلمات وبين الحروف وصولًا إلى الهمزة الرشيقة الممشوقة: “الحاء جاءت على سفينة الدال ومعها الهمزة وقوفًا تتظاهر”. ولحركات الفتح والضم والكسر موقعها في “قواعد” اللعبة اللغوية البلاغيّة عند شوقي: “من فتحة التبن… من جنينة الضمّة إلى مطارح الوشم ومرتع القلب… في بيداء القبو وجربنديّة الشتاء”، و”السائس والرموز منذ العتبة وذلك الفتى المجرور بالكسرة”، كل ذلك، أو رغم ذلك “لن تستفيق ابنة الفعل والصرف وهندامه وزعتر النحو ما عدا الكسرة لا فضاء لا سراب”. 

القاعدة الثانية: الانتقال من منطق اللغة التقليدي ذات الاتجاه الواحد، طردًا أو عكسًا، إلى مفهوم اللاإتجاه أو المستديرة اللغوية، أي المفهوم الذي ليس له بداية ولا نهاية. فبدلا من جملة تبدأ وتنتهي، ثمة تركيب آخر يدخل في دوّامة دائرية مستدامة: “القبلة وأنا السفر وأنا الحديقة/ والورقة الفتاة تكتب على جبين/ الورقة أنا الكرسي وأنّه يموج بي وليت/ نجأر وتحضر الوردة ولوني نقلًا عن امتحان الوجنات.”

القاعدة الثالثة: الإمعان في “الخربطات” التركيبيّة العبثيّة. فالشاعر يتعمّد مثل هذه “الخربطات” إمعانا في الوصول إلى مناطق غير مأهولة في اللغة، أو اجتياز أرض بكر لم تطأها قدم، أو قلم، شاعر قبله. فالشاعر لا يتردّد، مثلا، من عطف اسم على فعل: “ورحيقه وهم الخيول وتسرع الأوف وأشقاؤها كما تموج التنورة وتنزل الياء واللام من المقصورة نزول الريشة لا الدواة وثكنة الحبر والكلمة المشتاقة إليه”.

القاعدة الرابعة: حشد متواصل للصوَر الغريبة بأسمائها وأفعالها المترامية. فالشاعر لا ينفكّ يبحث عن أفعال لغير فاعليها، أو أسماء لغير مسمّياتها، وصوَر لغير عناصرها ولغير وظائفها التقليديّة: “وشعرات الليل المجدولة/ وإن في البيان وفي الترحال لمجدًا لا ينوء من رفع الحديد…/ ريقه يقلب الصفحة وفلوس الأرملة والمهر/ يهزج الدبّور غجريُّ الحيّ”.  

القاعدة الخامسة: تعزيزًا لفكرة الصدمة، ولفكرة الغرابة، نجد أنّ الشاعر يتوغّل في عمله الشعري الإبداعي عبر تصويبه في اتجاه معاكس، أي إيجاد حراك في ما لا حراك فيه، أو إحداث حركة دائريّة مكان السقوط أو الصعود، أو دويّ مكان السكون، أو سكون مكان الدويّ، “حيث الأخطبوط يلبط الخيطان، و”الديك يغادر الجمهوريّة إلى بلاط الخنجر”، “وتزداد البحيرة وكيف يبسنا وحتى القارعة حرثناها لنزرع الفلّ”، و”تغفو البتهالة على موسيقانا”. هكذا لا بداية ولا نهاية للتركيب اللغوي لأن الشاعر يبحث عن “مستديرة اللغة” أو عن اللغة المستديرة.

القاعدة السادسة: سرُّ الصورة الشعريّة، تركيب ما لا يُرَكّب، وإن رُكِّبَ لغويًا، فعلى غرابة مطلقة في الصورة الجديدة. هكذا نجد “موسيقانا عنزة الصخور”، و”أمَشِّطُ جدائلي وشعرات الحريّة”، و”شتلة اليقظة وخاتم السمكة”، و”ليُكتب اسمي على لحن البرغوتة”. تتساقط الحواجز اللغوية للصعود نحو فضاء رحب من الحريّة، وعالم مركّب بعناصر مختلفة وعلاقات جديدة أخرى لم نكن نألفها من قبل.  

نشير بعد ذلك إلى أن اللعبة البلاغية عند شوقي أبي شقرا، في نتاجه الشعري عامةً، يمكن التوسّع في شروطه وأصوله وقواعدة للوصول إلى بنيان كامل متكامل لبناء القصيدة عنده، وبناء المفهوم الشعري لديه بحيث يتطلّب هذا التوسع العمل على دراسة كاملة في شعر أبي شقرا منذ صدور مجموعته الأولى “أكياس الفقراء” عام 1959، مرورًا بسائر مجموعاته الشعريّة حتى اليوم. وما هذه المقالة إلّا مجرد فتح الباب في هذا الاتّجاه. (utopiamanagement.com)

وإذا ما شئنا التوسّع في البحث عن شروط اللعبة اللغويّة عند شوقي أبي شقرا وأصولها، والتوسّع في البحث عن قواعد، أو ما يُشبه القواعد، في لعبته البلاغية، فيمكن الإشارة إلى أن المسألة قد لا تعود مسألة سورياليّة أو فوق واقعيّة وحسب، بل تتجاوز ذلك إلى لعبةٍ بلاغيّة إبلاغيّة بامتياز. وكأنها وصلت إلى صميم شعر الحداثة، أو ما بعد الحداثة، بعد أن استلّه الشاعر واستنبطه من صميم كلاسيكيّة الشعر العربي القديم والحديث على السواء.

قبيل أن تشرف المجموعة على نهايتها يتابع القارئ قراءته ويتبيّن له كأن خيال الشاعر يغتصب الوجود، ينهمر، يطوف، يطير، يحلّق، يحطّ، يغطّ، يلاعب المفردات، ينازل الحروف، يغازل التراكيب، ويعجن عجينه الشعري بصلصال حركات الرفع والنصب والكسر، بعد أن يحوّلها إلى مخلوقات تكرّ وتفرّ، تُقدم وتُدبر، وصهيل الأغنية، بل “صهيل الأغاني” يطرق باب جار الرضى، “جارنا المطرب الصدى”.

يُخيّل إليَّ أن شوقي أبي شقرا حين يمتشق القلم، يمتشق رمحًا هو الريشة والإزميل ليترك لمخيلته العنان، ولا تدري ما إذا كان يكتب شعرًا، أو يرسم لوحةً تجريديّة، أو ينحت تمثالًا من المرمر على وقع الآهة أو على رنيم الكمان “المطرب الصدى”.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *