بول كلوديل… رائد الرمزية الفرنسية

Views: 214

وفيق غريزي

 

“ليس في الخارج سوى الليل/ بدون رجاء/الامر لا يستأهل حتى رفع الستار/ والنظر من النافذة”… 

اذا نحن امام القلق من ظرف أن نكون احياء بمواجهة الصورة التي لا فائدة لها، للعدم الذي يعترف بعجزه، الا انه من الطبيعي أن يصبح الياس خميرة، وأن يتأكد صفاء ذهن الشاعر باستعادته طاقات الوعي من جديد، “الوعي يحاكم بقساوة افكارنا واعمالنا الاكثر سرية، ولا يخطىء عن محاصرة الانسان مثلما يحاصر الثعلب، وخاصة الظلام” 

ظهر للشاعر الفرنسي بول كلوديل عام 1963 كتابه “تأملات في الشعر”، ضم رسالة الى القس بريمون، الى جانب خمسة ابحاث جيدة تدور حول الشعر، مضمونه وموضوعه وصلته بالدين، وفن النظم والشعر الحر. وكان القس بريمون قد أكد أن الشعر عمل “الملكة الشعرية”. والملكة الشعرية ذات صلة اوثق بالخيال والحساسية منها بالعقل المفكر، وانه يقوم على الالهام. 

وتعليقا على هذه المقولة رأى كلوديل: “أنه لا شك في وجود الملكة الشعرية وصلتها الوثيقة بالخيال والحساسية. ولكن ليس هذا انه ليس للعقل دور في الخلق الشعري، اذ الشعر ثمرة الحاجة الى الفعل، الى تحقيق الفكرة التي لدينا عن شيء ما، تحقيقها بواسطة الكلمات، ولهذا ينبغي أن تكون لدى الخيال فكرة واضحة قوية وحادة، وإن كانت بدايتها ناقصة غامضة بالضرورة، والفكرة امر عقلي”. ولهذا ينبغي أن تكون الحساسية في حال من الرغبة الملحة بالنسبة الى هذا الشيء. فالفعل الفني ثمرة تعاون الخيال مع الرغبة الملحة. 

 

سيرة حياته وبدايته 

كان لاسرة لويس بروسبير كلوديل ثلاث اولاد اصغرهم الشاعر بول الذي ولد عام 1868. لم يدخل المدرسة الابتدائية مطلقا، اذ عهد بتعليمه اولا الى استاذ خاص، ثم ادخل مدارس علمانية في مختلف المناطق الريفية. وعندما بلغ الرابعة عشرة اصبح تلميذا داخليا في كلية لوغران في العاصمة باريس. في تلك الفترة مات جده، وهذا ما اوحى الى الحفيد بول ذلك الرعب العميق من فكرة الموت، وهذا الرعب وهذه الفكرة اثقلته زمن مراهقته. وعندما بلغ الثامنة عشرة اصبح مفعما بفكرة العالم ” حزين جدا، وممل جدا، فانصرف الى درس الحقوق وباشر الكتابة”، وعام 1906 تزوج من زين مانت ماري بيرين ابنة المهندس دي فورفيير. ومات بول كلوديل في 23 شباط عام 1955 وهو في وعيه التام وكلماته الاخيرة الموجهة الى اسرته “لاترك في هدوئي – لست خائفا”. 

صنع بول كلوديل نفسه في الوحدة، وهذه الوحدة سوف تطبعه طوال حياته، ويبدو أن مطالعاته الاولى قد فرضتها عليه المصادفة، ما عدا قطعا مختارة قراها عليه معلمه الخاص عندما كان في الثامنة من عمره. اما روايات فيكتور هوغو واميل زولا التي قرأها ما بين الثانية عشرة والسادسة عشرة فقد منحته روًية بائسة عن العالم. غير انه لم يعلن عنها لاحد.

إن اثار بول كلوديل الادبية ومذكراته المرتجلة، وشهادات الآخرين، ومعطيات سيرته تعج جميعا بتناقضات ثانوية لا تشي احيانا الا بانعدام التدقيق، او بخطأ مادي، لكنها قد تثير غالبا العديد من التساؤلات. صديقه منذ السنة الدراسية المشتركة في معهد لوغران رومان رولان، وجد فيه “شخصية عنيفة” واحساسا ملتهبًا حتى الانتفاخ، شديد السطحية وعديم التماسك، عدوه الشخصي الميتافيزياء، اما بالنسبة الى اسرته فهو فتى فظ الطبع، عنيف كسائر آل كلوديل، يهتم بالادب والموسيقى وهو يتابع اجازته في الحقوق والعلوم السياسية، من غير أن يعرف تماما الى اية مباراة سيتوجه.

ملائكة باكية 

كان كلوديل احد زوار جماعة ادبية يترأسها الشاعر ستيفان مالارميه. ولكن منذ ماقبل عام 1891 كان التعارض بينهما ظاهرا، وقد عبر كلوديل عن ذلك في رسالة عام 1895 حيث قال “للشاعر امتياز اعطاء الاشياء كلها اسما”. وفي رسالة الى ريفيير عام 1907 اكد: “أن الموقف المأسوي لملارميه او الفنان، هو بادراكه أن ليس لديه في الواقع شيء يقوله “، تلك الاحكام هي ثمرة صفاء ذهن مفكر، ولكنها لا تمنعه من الاعتراف بدين ملارميه عليه. الاتجاه نحو والدته والرغبة في المطلق، والتسليم بعظمة محاولته وشجاعتها وصدقيتها.

كان كلوديل يدعو ملارميه استاذا لكنه لا يسميه اطلاقا الى جانب ” شكسبير واشيل ودانتي ودوستويفسكي، الذين يقول عنهم انه يدين لهم بالكثير، وارثور رامبو الاستاذ الاعظم. وهو يكتشف علاقة فكرية مع هوًلاء المبدعين ويعترف بانه تاثر بذكائهم، واذ تحدث عن دروس في الاسلوب الانشائي يشير الى انه استمدها من ” فرجيل وهوراس وجوفينال “. 

بدا كلوديل كبودلير ورامبو يبحث على الاقل في بداية التململ، في ازمته الانسانية. او في قلقه، عند خلاص ابعد من الانساني. وهو في خلاف معظم الشعراء، وخاصة شعراء جيله الرمزيين ومنهم بول فاليري راى : ” أن الخلاص لا يتم الا عبر الاتصال الكامل بالكائن “. 

وكما تاثر شارل بودلير بالشاعر الاميركي ادغار ابن بو اذ وجد نفسه من طينة واحدة، هكذا تاثر كلوديل برامبو الصوت الذي سمعه فجاة يزعق، واكتشف كلوديل انه ابن الاسرة اللامنظورة ذاتها، وانه نبتة من البذار ذاته، كلاهما وحيد مستوحش، وكلاهم مطمورة جذوره في الارض الصلبة عينها، وكأنهما مشدودان لجميع اعضائها نحو عالم المجهول. وبعد قراءته “فصل في الجحيم” لرامبو قال: “يتبين لي أن عقلي يغفو، ولو كان دائم اليقظة، ابتداء من هذه اللحظة، لكننا بلغنا سريعا درك الحقيقة، التي قد تكون محيطة بنا ملائكتها الباكية “، فيقول:

 “ايتها الطهارة، ايتها الطهارة/ان هذه الدقيقة في اليقظة/هي التي منحتني اياها روًية الطهارة/ بالعقل نذهب الى الله/ يا لسوء حظي المولم”.

 

بواكيره الشعرية 

انطلقت مسيرة كلوديل في ابداع اثاره، ولا شيء يستطيع أن يرينا مدى اتساع الرقعة المتبقية للكشف احسن من بواكير نصوصه ذاتها. أن “اللحظة” ليست سوى بذار وتبقى أرض الانسان كلها في حاجة الى حرث وتمهيد. وارض كلوديل برّية صلبة، ناهيك بانها ارض عاق: 

“انبشوا قلبي، واذا وجدتم فيه/شيئا غير الرغبة الخالدة/ارموا به الى المزبلة/واجعلوه طعاما لديدان الارض”. إن الذهاب الى اقصى حدود الرغبة، لأن “في الانسان حاجة الى السعادة مروعة، ويجب اشباعها والا تلتهم كالنار كل شيء”. ذلك هو مشروع كلوديل الذي تنكب عليه نفس ترفض لعنة الموت. فاذا كان المران والدراية وسلطنة العقل والاحساس هي التي ترشد الشعراء، فان كلوديل مدين بذلك جميعه الى ماوية بريئة مقحامة كما يقول “غيتان بيكون”: لقد حصل على تفويض من هذه السلطة التي تخلق العوالم وتقيمها.

 اثاره اوسع من زمانه، فكأني بها تمد الأيدي من وراء الزمن لتشبكها بيدي اشيل ودانتي، وترفع صوتها، فكأنما تستعر حنجرة ارميا واشعيا ودانيال، في انشودة الروح والمال، حيث يقول كلوديل:

“بعد الصمت المديد اللاهث بالبخار/بعد الصمت المدني العظيم/صمت النهارات العديدة/يعتني بالجلبات والادخنة/ لهاث الارض الزرعة وتغريد/ المدائن الكبرى/واذا بالروح من جديد/ واذا بالنفس من جديد/ واذا بالطرفة الصماء على القلب/واذا بالكلمة المعطاء/ واذا بنفس الروح/بالسبل اليبس/ واذا بتملك الروح”.

الشاعر وسيط بين الآلهة والبشر

فن كلوديل الشعري والنثري، هو نتيجة تفكير عقلي، ونستطيع أن نتصور من دون عناء أن الاستعداد المسبق لطبيعته كان يحمله على أن لا يقبل القلب الذي لكل الناس، فالخيال والرغبة، كان يجب، تبعا للمواهب الخمس لكلوديل أن تحمله على ادراك مجموعة وجوده المادي والمعنوي، الجسدي والفكري، وفي الوقت الذي يستخدم الاخرون تجاربهم للعرض قبل الاستنتاج 

” يفضل كلوديل أن يسهم في الشرح، وهو لا يحتفظ للمرحلة الاخيرة من القصيدة بصدمة فكرية مضروبة جيدا، ومفصلة بعناية ولا يرسل بضربة بوق، او بخالصة صوت، نغما يحدد المدى الديناميكي للاثر الادبي”.

إن الشاعر يفلق القشرة البرانية للمادة، وينفذ ببصره النوراني الى جوهرها الدفين، ويتجلى فيها ما تحجبه البراقع الجسمانية -الهيولية عن نظر السواد الاعظم من الناس. لقد فهم بول كلوديل أن الشاعر هو الوسيط بين الالهة والبشر، ينقل رسالة السماء الى ابناء الارض، ومن هذا المنطلق فهم مهنته ومعناها الروحي، ولهذا، اصبح مدينا بعودته الى حظيرة الايمان لرؤيا علوية جذلى هبطت عليه مباشرة، خلال قداس الميلاد في كنيسة نوتردام عام 1886، حين كان الثلج يغمر الغابة، والبرد والظلام يلفان الكون، وحين ظهر الباري تعالى انه الحقيقة الحية الوحيدة، وكل ما عداها باطل. فعبر عن تجربته الصوفية في قصيدته “فلتعظم نفسي الرب”. ويوًكد كلوديل أن الفن الشعري قبل كل شيء، الفن الذي تتعاطاه اصابع الفنان، المظهر الخارجي الجسدي للشيء، يوجد اولا، وكذلك الاشياء. والفنان ليس فقط الذي يملك اداة بل الذي بواسطته تعبر الاداة.

 

الصورة الشعرية 

عندما نقرأ كلوديل، ندرك سريعا أن الصورة المنتشرة باسراف في مؤلفاته، لا تنبعث من الصدفة او من كلمة، وتقوم باكثر من الدلالة والتذكير. انها تلقي الضوء على المشاهدة، انها تقوم اولا بتعميق فكرة، وقولبة تعبير، ثم تثير يقينا اقوى، انها توكد، غير اننا نلاحظ ايضا العودة المتواصلة لعدد منها، كما لو أن رؤيا الشاعر كانت ترغب في أن تتركز حول بعض الافات وخاصة تلك التي يجب أن يرجع اليها. 

إن الصورة الشعرية بالنسبة الى كلوديل هي جوهر الشعر، شرط أن يتم اختيارها “لا بسهولة من مجموعة صور، بل بموجب سجع حميم وطبيعي، مع النظر الى العالم الذي تفترضه القصيدة، ولقد كتب الى جاك بريفير عام 1907 يقول: “المادة تمضي، لكن الشكل يبقى محتفظا بذاته، متجددا على الدوام، كالله الذي يعطي الشكل صورة جزئية منه”.

إن المعنى الكوني عنده، نجده موزعا في المكان، لا في الزمان، ذلك أن الزمان، في نظره لا يكف عن تكرار النظام الثابت للعالم المخلوق..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *