سجلوا عندكم

جورج صادر…وأَطايبُ الرّيشة

Views: 25

الدكتور جورج شبلي

 

أجناسُ الكلامِ ثلاثةٌ : اللّغةُ، والشّكلُ، والصَّمت. والمَلاحةُ لا تناصبُ الخصومةَ لجنسٍ منها، فانشراحُ النّفوسِ يطربُ لِوَقعِ التّعابيرِ، أو لمِضرابِ الأوتار، كما لعجقةِ الألوانِ في نَعتِ الصُّوَر، كما للسِّعةِ في التأمّلِ حيثُ تسطيرُ المشاهدِ في الذّهنِ من غيرِ نُطق، استخراجٌ لنُعوتِ الحياةِ من العُري.

جورج صادر جعلَ، في الرَّسم، كلَّ خَرزةٍ الى ما يليقُ بها، ومن دونِ التواء، وفي إجادةٍ أليفةٍ لإدهاشاتِهِ، وإشاراتِه الدالَّةِ على أكثرِ مُرادِه.فهو بَوَّبَ خواطرَه في لمحاتٍ، منها ما قاربَ الواقع، فنقلَه بدقّة،  ومنها ما جاوزَ المألوفَ الى ما بعدَه، لأنه ذهبَ الى قناعةِ أنّ النّقلَ هو مجرّدُ مُحاكاةٍ باردةٍ للحياة، والفَوطبيعي هو أعظمُ، أحياناً، من الحياةِ نفسِها.

جورج صادر يقتسمُ مع الشّكلِ واللَّونِ مشاعرَ الرَّسمِ، ولكن بِرِفق. في يدِهِ مَقبَضٌ يشدُّ على مفاصلِ الصّورة، وكأنّه أوركستراليٌّ يدوزِنُ نظامَها، ويبني خطوطَها التي تحرّكُ الأمزجة. وهو الرَّقيقُ الإحساسِ، يعرفُ كيف يختارُ مفاتيحَ لوحاتِه، ليُظهِرَ كنوزَ الرَّسمِ الخفيّة، بموهبةٍ فذَّةٍ، ربّما، لم يتوفَّر لها الظَّرفُ المُؤاتي لتُذكَرَ بحماسة، وفي ذلك خسارةٌ لرِزقِ الرَّسم.

جورج صادر، لوحاتُهُ تُعلنُ عنه، من دون أن يتكبَّدَ مَهمَّةَ الإفصاحِ عن صانِعِها، فالموهبةُ هي مَصنعُها، والإبداعُ له في كيانِها الصّدارةُ، لأنه قَريبُ جورج صادر بالعَهدِ، والإِلفةِ. لقد طبَّقَ هذا الرسّامُ النَقيُّ فطرتَه في مفاصلِ لوحاتِهِ، فتلاقَحَت مع الجَمالِ وكأنَّ ظمأَ الرَّسمِ يُروى بالزُّلال.

هنالك مَن اعتبرَ جورج صادر يشكّلُ عالَماً مُغلَقاً، أو غامضاً، إنْ في مقاطعِ حياتِه، وإنْ في تجلّياتِ موهبتِه في بابِ الرَّسم. لكن، إذا سلَّمنا بهذا الحصارِ المُبتَدَع، لا يمكنُ إغفالُ أنّ صادر كان لاعباً مُشِعّاً قد أهدى الرَّسمَ انتصاراتٍ مُبينةً، ومن دونِ مُرتَزَقَة. لقد وثَّقَت موهبتُهُ علاقاتِ التّحالفِ مع الإبتكار، وأيقَنَت أنّ أمامَها أعمالاً جساماً، فاعتصمَ صاحبُها بالقدرةِ على إتقانِ الإجادةِ لأنه، بِطَبعِهِ، لا يُفتَنُ بالحَمدِ المَصنوع.

جورج صادر الوَجيزُ الكلامِ، ولكن، ببليغِ الرّيشة، قد زادَ لغةَ الرَّسمِ ثروةً، والرّسمُ هو أقربُ الى تصويرِ أغراضِ الحياةِ من سواه، وليسَ عنصراً دخيلاً من دونِ رونق. لقد أقبلَ صادر على هذا الفنِّ ليمتِّعَ الأذواقَ بالتّصويرِ الخلّاب، ولم يدخلْ الى مِلاكِهِ زوراً، فلم يكنْ من النَّكِراتِ الذين يدّعونَ الموهبة، ليُطرَدَ من الهيكل، فيعودُ محروماً، أو كاسِداً، أو مجروحَ القلب. لقد استظلَّ بفناءِ الرَّسم، فدرجَت بينهما عِشرةٌ وطيدةٌ لِما في هذا الرَّجُلِ من رقّةِ حسٍّ، ودقّةِ نَظَرٍ، وقوّةِ إفصاح.

الرَّسمُ، مع جورج صادر، لم يكنْ لتقطيعِ الوقت، بل كان، معه، مجلسَ أُنسٍ جُلساؤُهُ عِتادُ هندسةِ إخراجِ اللّوحاتِ من القوّةِ الى الفِعل. ويأتي المردودُ على مستوى التوَقّعِ، إنتاجاً فنيّاً سَلِساً، لا يستبطنُ غموضاً أو مُعضِلات، فالمُشاهِدُ يستطلعُ وقائعَهُ ولا يجدُ فيها إلّا إمكانيّةَ تَكويرٍ مُطلَقٍ للرَّوعة. فلوحاتُهُ المتعدِّدةُ الأنواعِ، تسعى الى بَعثِ الحياةِ فيها بالنَّظَر، ليطوفَ الجَمالُ على العيونِ بمُتعةِ الإِدهاش.

إنّ الرّسمَ، كفَنّ، هو نسخةٌ عن الإحساس، لذا، لم يكنْ جورج صادر غريباً عن جعلِ الصّورةِ جسراً بين أحاسيسِهِ والأّذواقِ التي هي الحَكَمُ الجَماليُّ للمواهب. ولمّا كان إبداعُ جورج صادر قد وضعَ نفسَه في خدمةِ الرّيشة، أنتجَ لوحاتٍ لها غيرُ طَعم، في تشكيلاتِها المتأنّقة، وخطوطِها النّاضجة، ما جعلَ الجَمالَ يدخلُ إليها بالرَّغمِ منها لحمايةِ قيمتِها. والجَمالُ حالةٌ قدسيّةٌ لا ينتهكُ حرماتِهِ إلّا المُبدِع، ولا يستسلمُ إلّا لِأَيدي الخَلّاقين، فهو صنيعةُ الرقّةِ والعذوبةِ، وإنْ كان أَثقَلَ حِملاً من غيرِه.

لم يدخلْ جورج صادر أبوابَ القُصورِ، وسرايا التزلُّف، ليفقدَ من كرامتِهِ عطرَها الطيّب، ويتركَ ريشتَه يُعَفِّرُ جبينُها التّراب، فقد خَزَنَت نفسُهُ عِرقَ عِزَّتِها، وهو شعورٌ راقٍ يسمو بهِ مَنْ يتصوَّنُ عن التملُّقِ، والإستجداء، ومن دونِ نَدَم. وما أتاهُ جورج صادر من مادةٍ قيّمةٍ في الرّسم، ليس موضةً تُلبَسُ وتُخلَع، لكنّه زادٌ متألِّقٌ خرجَ عن أنفاسِ هذا الفنّان، وقد أشبَعَت نَصيبَه موهبةٌ رشيدةٌ، ويَصلحُ لِإِحياءِ مهرجان.

 

(https://hingwala.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *