جورج طرابلسي والقصيدُ المُقَفّى بالأخلاق

Views: 217

ربيع الدبس

عنوان فضائل وعُنقود عطاء، ذلك المشغرانيّ الذي عانق فضاءً أوسعَ من عصبيات القرية والقضاء والمحافظة…عالجَ كبرياء المرضى بتواضع الأصحّاء، والإسفاف الشائع بالارتفاع النادر، وأحقادَ الصغار بِرُقيّ الكبار. لم يسمح لأدب الصحافة أن يُضعف من أدب الفكر بل عكفَ على ضخ الثقافة عبْر الاعلام المكتوب بالجُرعة التي تُتيحها الجرائد اليومية إذْ لا نكهة للصحافة ولا للسياسة من غير ثقافةٍ ومثقفين.

قصيدٌ محسومُ الإيقاع ذلك الرجلُ الحامل اسمَ جورج طرابلسي، دونما ألقاب باتتْ عبئاً حتى على مستحقيها في الزمن الرديء الذي هبطتْ بانحداره صورةُ الشهادة وقيمةُ طالِبيها، هو قصيدٌ لكنْ على قافية الأخلاق وإيقاع الأحرار…

رعى الكُتّاب: شبابَهم والشِّيبَ، سواء في إدارة التحرير أو في القسم الثقافي، فظلَّ لصيقاً بالإنسان في غاية الكتابة حتى يكون للثقافة مضمونُها المناقبي المرتبط بيقظة العقل والضمير، وتبقى للصحافة صبغتُها الرسالية المُنَزَّهة عن الانحراف ومصاحباته المُدّمرة.

الصحافة بنتُ الكلمة ومنارة فكرية ومعرفية، كما يؤكد صاحب فكرة “علّمتنا الحياة” التي تُرجِمَتْ كتاباً شارك فيه كٌتّابٌ لبنانيون بعدد أيام السنة. وها هو يجزم في حديث صحافي: “الصحافة لم تجِئ إليّ ولا أنا ذهبتُ إليها، بل فَتَحتُ عينيَّ على الدنيا وأنا أحمل أوراق نفوسها… أبي القلمُ وأٌمي المحبرة وحياتي صفحاتٌ وصفحات”.

عريقٌ جورج طرابلسي في المهنةِ-الرسالة. تَعَتّقَ نصفَ قرنٍ في خوابي المعرفة، فطابَتْ لقارئيه رحلةُ الأغوار ولأصدقائه خمرةُ الأصالة. وكم يُذَكِّر هذا الرجل عارفيه بالشاعر شوقي أبي شقرا في دور رعاية المواهب. لكنّ أعلاماً في الأدب والفكر عرفوا قيمة طرابلسي، ربما، أكثر من مسؤولين في المؤسسة الصحافية التي ظلمتْ موظفيها معنوياً ومادياً عندما قرّرَتْ إقفال مكاتبها. غير أن الرجل فَوْلَذَه الألم فلم يستسلم، بل أسسَ مع شريك مستحِق (الأديبة/الصحافية كلود أبو شقرا) موقع “ألف لام” الإلكتروني الناجح. ألمْ يعتبر فيلسوفُ التنوير العظيم، كانط، الحريةَ مرتبطةً بالمقدرة على اتخاذ المبادرات والتأسيس مِنْ جديد ؟: “أنْ تكون حراً يعني أن تكون قادراً على بدءِ شيءٍ ما”.

 وها هو يَسُوق إينيشتاين شاهداً على خبرته المدرسية والحياتية، فيقتبس قول صاحب النظرية النسبية: “في المدرسة يُعَلّمونك الدرس ومن ثم يختبرونك، أما الحياة فتختبرك ومن ثم تُعَلمك الدرس”. على أنّ الذي ساق مقولة إينيشتاين، الأديب جورج طرابلسي، فَلَهُ نَصٌّ بَهِيّ في تقديم كتاب “علّمتنا الحياة” جاء فيه: “الحياة مدرسة، منهجها التجارب وأستاذها الزمن، ننتسب إليها لحظةَ انبثاقنا منها، ونبدأ فُرادى في البحث عن مناجم طاقة الخلود الكامنة فيها لإنارة مداركنا تمهيداً لانتقالنا من إبداع العقل الفردي إلى العقل الجماعي”.

قد يكون الراحل جوزف حرب، الشاعر النوعي الذي جمعَتنا به تجربةٌ خصبة في الهيئةُ الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين، هو أول من أثنى أمامنا على ثقافة جورج طرابلسي وخصاله الرفيعة، لكنّ تعاملنا المباشر مع الأديب المسؤول جورج طرابلسي هو الذي حَسَمَ ثقتنا بالمعدن الذي ينطوي عليه قلبُه وطَوِيّتُه، وكفَى بالخبرة العملية معياراً لليقين. ألَمْ يُشِرِ المتصوف الكبير، النِّفَّري، إلى أن الله أوحى له قائلاً: “إنْ ذهبَ قلبُك عني، لم أَنظُر إلى عملك”؟

فيا أخي الكبير جورج،

أيها الأنيق، الوَدود، الوطنيّ، المنفتح، المُشَذّب بالصبر والمعرفة،

لعلّ فيك مأثرةً، قلائلُ همُ الذبن أُوتوها، وهي مأثرة الإصرار المتواصل على إبصار الجمال وتذوّقه حتى حيث يَصعُب إبصاره وتَذَوُّقُه. فهنيئاً لكَ الجمال الداخلي المرادف للسلام الداخلي.

 قال فرانز كافكا: “أي شخصٍ يحافظ على قدرته في رؤية الجمال، لن يَشيخ”.

(https://www.controleng.com/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *