كيف تُبنى الجمالية؟
وفيق غريزي
إن الغرض من كتاب “ما الجماليّة؟” للمفكر مارك جيمينيز Marc Jimenez، لا يقوم على عرض تفصيلي لمختلف التعريفات والتطبيقات الخاصة بالجمالية، كما يمكن للمتلقي أن يجدها في موسوعة، أو في بحث مركز، أو في كتاب مدرسي أو قاموس، ولم يكن الغرض منه القيام بعرض تاريخي دقيق لمختلف الانظمة الفلسفية -الجمالية التي توالت منذ افلاطون الى ادورنو، ولا بسط جردة من العقائد الخاصة بالفن خلال اربعة وعشرين قرنًا.
قبل عشرين سنة ونيف، ظهرت علامات الشيخوخة المبكرة على لفظة الجمالية، المستعملة لتعيين التفكير الجمالي في الفن، كما ظهرت اللفظة بالية وقابلة للاندثار، على الرغم من أن معناها الحديث لا يرقى الى القرن الثامن عشر فقط، بل ذهب بعض الفلاسفة حتى الى
التصريح بسخرية، أن الجمالية باتت، على الرغم من اعوامها المئتين، من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين، مثل فشل ساطع عامر بالنتائج. ايا كان ثقل الماضي السلبي فقد انقضى الزمن الذي كان يؤسف فيه لحال العداء، بل الاحتقار للجمالية بل يشهد الاقبال على النشر المتزايد في السنوات الاخيرة، على عودة الاهتمام النظري في الفن. إن مجموعة من الاسباب تفسر هذا الميلاد الجديد.
الميلاد الجديد للفن
إن الفن الحديث في بدايات القرن العشرين، وردة الفعل القوية عند دعاة هذا الفن، تجاه التقليد، وعنف التظاهرات الطليعية، هذه كلها تبلبل، في اللحظة الحالية، عمل منظري الفن، وهناك قلة من علماء الجمال خاطرت بين العام 1910 والحرب العالمية الثانية في اقتراح تفسير نظري وفلسفي لاعمال الفن الجاهز لـ مارسيل دوشان أو لاعمال مجموعة دادا، الاستفزازية، أو اللوحات التكعيبية لبيكاسو أو للمعزوفات غير النغمية لارنولد شوتبرغ أو لبرنامج اندريه بريتون السوريالي، بعد سنوات على ذلك. ولهذا لم تتبلور النظريات الاولى للفن الحديث في صور متماسكة ومنسقة، إلا ابتداء من ستينيّات القرن العشرين. وحسب اعتقاد الموًلف، فان الفن المعاصر يعاني من أزمة في شرعيته ويقول: “الفنانون الحاليون متهمون باستساغة السهولة، وبانتاج اي شيء كان، وبتفضيل صيتهم الاعلامي على حساب الابداع الفني، كما يتم توجيه الاتهام، في صورة متكررة الى الفن الحديث، والى تصوره الحلمي عن عالم محسن بفضل الفن، بوصفهما مسؤولين عن حال الانهيار هذه “. إن الجمالية التي تتعين في هذا العصر، بسبب اصولها الفلسفية، بوصفها فلسفة الفن، قابلة لأن تستبدل الموقف في الفن عموما، لا الاعمال الفنية.
إن الفن ممارسة عاملة بطرق مخصوصة، ومطبقة على مواد محددة، ما يؤدي الى انتاج اعمال فنية. أما الجمالية، كممارسة قائمة بذاتها، فانها تمكن من اعمال التفكير في الفن، وفي الاعمال الفنية، مولدة بذلك عالما مفهوميا تكوينيا لمعرفة ما. وفي هذا السياق يقول الموًلف:
“إن الجمالية وفق معناها الحالي، وأيا كانت الخصوصية أو التنوع المميزين لها منذ بومغارتين، لا يمكن ان تختصر بأي من العلوم المحددة التي لجأت اليها احيانًا، مثل علم النفس، وعلم التحليل النفسي، وعلم الاجتماع والاناسة، والسوسيولوجيا او اللسانية”.

فكرة ابداع مستقل
يعود الى الأب الدومينيكي الفيلسوف اللاهوتي البير الكبير (1193- 1280 ) التعريف الذي قوامه: أن نبدع فهذا يعني ان ننتج شيئا ابتداء من لاشيء. هذا التأكيد التعريفي الذي اطلقه استاذ توما الاكويني قرابة العام 1230، لا يستثير في ايامنا هذه، أي اعتراض بعينه، ولا يقوى احد على توجيه اللوم اليه بسبب من اعتياديته الظاهرة. وفكرة الابداع التي نفسها، بوصفها خلقًا من وجهة نظر المؤلف هي في حد ذاتها مرفوضة، طالما أن الخلق هو من امتيازات الله والانسان، اذ ينتج عملا فنيا، لا يقوم، وهو اسير نهايته، الا بكشف القدرة اللامتناهية التي للخالق الكلي القدرة. وموضوع جنة عدن في سفر التكوين الذي اتاح مجالا واسعا، خلال قرون، لتأويلات لاهوتية مختلفة كما لجدالات لاهوتية عديدة، يعبّر بوضوح عن الفكرة القائلة بان الخلق يبقى خاصا بالله: فالانسان، حتى المتمتع بحرية خاصة به، لم يخلق الجنّة الأرضية، بل جرى وضعه في جنّة عدن، مع مهمة وحيدة، خلاصتها:
” علينا انتظار عصر النهضة، في الغرب، لكي يصبح مفهوم الابداع الفني مفكرا فيه، ومقبولا في الوقت نفسه “. في هذا ظاهرة مدهشة للوهلة الاولى، لأن التفكير في ابداع فني، والقبول بصنيع انساني خالق للاعمال والقيم، يكشف عن تناقض مع الفلسفة الدينية. (https://thehubmiddletown)
عقل وحساسية
في النهضة (عند بداياتها على الاقل) لم يكن للخيار بين العقل والحساسية معنى. والمحاكاة تشكل المبدأ الجمالي الغالب، واستهدافات الفن تتعين في الطبيعة والانسان أو الله، ويقول الموًلف: ” إن تكريم الله بمحاكاة صنيعه، أي الطبيعة أو الانسان، يسمح ببلوغ الجمال”. هذه الفكرة التي تختصر وحدها جمالية النهضة، تتعين في صورة موفقة في التعريف الذي يخص به فازاري وليونار دو فنشي، يمكن للتأثيرات السماوية ان تمطر مواهب عظيمة على بني البشر، إنه أثر من اثار الطبيعة، الا ان هناك شيئا يفوق كل ما هو طبيعي ويتحصل من التراكم الزاحم، عند انسان بعينه، للجمال والنعمة والقوة، حيثما يعمل هذا الانسان، فان كل حركة من حركاته الهية الطابع، ما يجعل الاخرين ينكسفون، ويتم الانتباه حينها بشكل واضح الى انها حاصل نعمة سماوية، لا تعود ابدا الى المجهود الانساني، وتظهر العلاقة بين العقل والحساسية في غموضها كله. وتشهد النهضة كما يرى المؤلف انتصار النزع الانسانية، الانسان هو الذي يقيس الفعل الخلاق من جهتين: بوصفه فنانا، مفسرا بين الطبيعة والفن، وبوصفه (اي الانسان) موضوعا للتصوير، كما يظهر في التصوير او النحت.

غموض الاستقلالية الذاتية للجمالية
إن فوز الجمالية بالاستقلالية الذاتية يعني كذلك في الفن، توقف الفلاسفة بالطبع، في كل عهد، عند مشكلة الجميل، وعند القواعد المقصورة على انتاجه، كما عملوا على تحديد مكانة الفنون ووظيفتها في المجتمع، وسعوا ايضا الى فهم المشاعر التي تستثيرها اعمال الفن لدى البشر، ونظرية الجميل يقول الموًلف: “تشغل مكانة هامة في مؤلفات افلاطون وارسطو هو كاتب بحث في الجميل الذي لم يصلنا بكل اسف، اما بلين القديم ضحية انفجار بركان فيزوف في ايطاليا العام ٧٩ م. ومولِّف الكتاب الضخم تاريخ الطبيعة. فقد رسم صورة واسعة عن تاريخ الفنون في العصور الغابرة. وبعد ديون كريزستوم الخطيب الاغريقي في القرن الأول بعد المسيح، احد نقاد الفن الاوائل، الذين خصوا الفضائل المقارنة بين النحت والتصوير بدراسة.
وعندما نتكلم عن الاستقلالية الذاتية للجمالية، التي تعزز بقوة مع بروز لفظ الجمالية، المطبق على ممارسة محدودة، فاننا لا نحيل اجمالا، الا على لحظة هذا التطور وعلى وجهة بسيطة ايضا، ذلك ان الاستقلالية الحقة، الأكيدة والتامة، ما تحققت ابدا، ولن تتحقق ابدا، وهي وان كانت ممكنة، وهذا ما لا نعتقد به، فانها لن تكون مأمولة الوصول من دون شك.
ويشير المؤلف، الى أن مشكلة الاستقلالية لم تطرح في العقود التي سبقت قيام الجمالية الفلسفية، في تعابير جلية. إلا ان هذا الغموض بقي كامنا، بأي حال، وهو مزامن لولادة الجمالية، ومولد لتوترات متمادية حتى ايامنا هذه ويستحسن الان الحديث عنها.
نقد الحداثة – ما بعد الحداثة
منذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وفي مطلع الثمانينيات، اشتدت الانتقادات الموجهة الى الحداثة والى المشروعات الطليعية، والموضة الموسومة “موضة رجعية” كانت، منذ وقت، بادية التدليل على اعادة النظر في معنى، للتاريخ وذلك في اتجاه متتابع صوب مستقبل حداثي مشرق. ويتوخّى عصر ما بعد الحداثة وما بعد الطليعة ان يضع كلمة الختام لعصًر الحداثة، ولطوبى ذات تمامية اعجازية. العصر هو عصر الفردانية وتأكيد حرية تدع لكل واحد متعة الحكم والتقويم، كيف ما يسره، نتخلى في ذلك عن المعايير والقواعد التي وضعها الفن الحديث، وتصبح اكثر تقبلا لاشكال الماضي واساليبه.
ليس ما بعد الحداثة حركة، ولا تيارا فنيا، بل هو التعبير اللحظوي عن أزمة الحداثة التي تصيب المجتمع الغربي، ولا سيما البلدان الاكثر تقدما في الصناعة، هي اكثر، حسب رأي الموًلف، من استباق مستقبل تتحاشى تصوره، بل تبدو خصوصا مثل اعراض جديدة لأزمة في الحضارة، هذه الاعراض تختفي تدريجيا، بينما الأزمة تبقى. انها تحتل اليوم، مكانة هائلة في السجال الحالي حول الفن المعاصر.
كان الشاعر الفرنسي شارل بودلير يعرف ان مصور الحياة الحديثة محكوم عليه برسم هيئة حداثة انتقالية، هاربة ومحتملة، إلا أنه لا يمكن تخطي هذه الحداثة الا بحداثة هي بدورها موقتة، وهكذا دواليك. ليس امام فنان العهد ما بعد الحداثي خيار واحد، هو الاستعادة المتكررة للماضي، وهو ايضا قبول الحاضر، وهو مدعو بعد تحرره من الطوبى الحداثية، الى التمتع بهدوء ومن دون تطلعات وهمية ومستقبلية بمحاسن العهد الحالي. إن الثقافة الكبرى والثقافة المشتركة، تقيمان وصلا يعزز قيام معرفة ودية بين الفن والجمهور، وذلك بتعزيز الطابع الجاذب في العمل، والاعتراف بشدته الداخلية.
هذا الكتاب لمارك جيمينيز يراجع تاريخيا ونظريا تحليليا أن بناء الجمالية كسبيل دراسي وفلسفي، منذ التفلسف الاغريقي مرورا بالنظريات الكلاسيكية، وصولا الى المذاهب الفلسفية المتأخرة، وهو بقدر ما يعاين الخطاب الجمالي يعاين اصل التجارب والاساليب الفنية. فضلا عن أنه يعاين تشكل هذا الخطاب الخصوصي في نظرية الحداثة نفسها…