مع نادين طربيّه والكتابة الإبداعيّة بين الكميّة والنوعيّة 

Views: 1341

د. السّفيرمحمّد محمّد خطّابي*

أهنّئ الكاتبة اللبنانية الدكتورة نادين طربيه على بحثها الرّائع ” الكتابة الابداعيّة بين الكميّة والنوعيّة” أوالقراءة  بين الكمّ والنّوع التي ضمّنتها ( إحتجاجَها ) الصّارم،والصّامد، والصّارخ، الموجّه لكلّ مَنْ يُصغي . 

لهيب الكتابة و لسعتها

تحتجّ الكاتبة على كلّ مَنْ يعاني من حالة ضعف أمام يراعٍ وورقة لا تلبث أن تتحوّل سريعاً إلى حالة شراهة متفاقمة ،وتطلّع لا يقوم على أيّ أساس نحو الشّهرة، والنشر، والذيوع . إنها تحتجّ على حالة الإنسياب الإبداعيّ التي تُصيب البعض منّا، ليس من باب الإنتقاد في سبيل الإنتقاد، بل حرصاً  منها على الجودة الإنتاجيّة للأدب، أوّلاً، وخوفاً من الإستهلاك المدقع لأقلامنا المبدعة ثانيًا. الكاتبة المتألقة التي سبق لي أن قرأتُ لها وعنها من قبل فى أوَيْقَاتٍ رغدة جذلة إستقيتها، وإسترقتها، وإستعرتها، وإختلستها من ثنايا زمننا هذا الرديئ ، ومن طيّات أيامنا هذه الكئيبة ،إستمتعتُ، وإستفدتُ، بما قرأتُ  لها إستمتاعاً وإستفادة لا حدّ لهما.

إنها تتساءل عن جدارة وأهليّة، وأحقيّة، وإستحقاق :حيال الإشكالية الخطيرة التالية : “هل المهمّ ما نكتب أم كم نكتب ..؟”…وتأكيداً لسؤالها الوجيه، وإستجابةً له.. أقول : الكتابة ،بالفعل، هي كياسة، وسياسة ، وفنّ ، وتمرّس، وصَنعة، وصَبر، وتحمّل ، وأناة ،وسَهر، وسَمر،ومواظبة، ومثابرة، ومواكبة، وتتبّع ثمّ هي بعد ذلك خلق، ومعاناة، و مَخاض، وإبداع ، وعطاء، ونقاء، وإيمان، وإخلاص، ووفاء. وقد لا يتوفّرالكثير من الكتّاب فى عطاءاتهم ، وإبداعاتهم على هذه الصّفات التي ينبغي أن يتدثّروا بأرديتها، وأن يتسلّحوا  ، ويتدجّنوا بأدرعها هؤلاء الذين يخوضون غمارَ تجربة الكتابة والإبداع ، والكيّ بأوار لهيبهما، والإحتراق بلسعة جمرتهما .

الكمّ الكثير والقليل الجيّد

 كما ذهبت الدكتورة نادين  طربية مُحقّةً ، لا يرتاب أحد في أنّ هذه الأزمة بمفهومها الواسع هي قائمة بالفعل ، خاصّة لدى بعض المبدعين، والمبدعات ممّن إكتملت لديهم ولديهنّ عناصر النّضج الفنّي، وتوفّرت عندهم، وعندهنّ مؤهّلات النّشر ، مع ذلك ما فتئ بعض هؤلاء، وما إنفكّ بعض أولئك لا يدركون أنّ العبرة ليست في ” الكمّ الكثيرالمهلهل” الذي ينتجه أو يقدّمه هذا الكاتب أو ذاك من أيّ نوع، بل إنّ العبرة الحقيقية تكمن في ” الكيْف القليل الجيّد ” أيّ ( ما قلّ ودلّ)   الذي يبدعه، وتجود به قريحة هذا الكاتب أو سواه، والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها في تاريخ الخلق الأدبي فى كلّ صُقع من أصقاع المعمور ، فكم من كاتبٍ يصادفنا أثناء قراءاتنا المختلفة ، ويحتلّ في أنفسنا مكانة أثيرة، ومنزلة مرموقة لعملٍ واحدٍ جيّدٍ، ومفيدٍ من أعماله أو عملين إثنين بذّ بهما سواه من كتّاب عصره ، ومعروف عن الكاتب المكسيكي الكبير “خوان رولفو” الذي أدرجتُ غيرَ قليلٍ من نصوصه القصصية، وكتاباته الإبداعية فى كتابي : (أنطولوجيا القصّة القصيرةالمعاصرة فى بلدان أمريكا اللاّتينية ” عدالة الهنود  وقصص أخرى”) الصّادر عن المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة -القاهرة-.

معروف عن هذا الكاتب أنّ مجموع إبداعاته الأدبية لا تتجاوز الثلاثمائة صفحة ، ومع ذلك فقد بذّ، وتجاوز، وتفوّق على العديد من الأدباء المعاصرين له  فى بلده المكسيك، وفى سائر بلدان أمريكا اللاتينية، وفى هذا السّياق قال عنه صاحب “مئة سنة من العزلة ” الكاتب الكولومبي المعروف غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل العالمية فى الآداب علم 1982 قال: “إنّ هذه الصّفحات الإبداعية على قلّتها ( 300 صفحة) قد إرتقت بخوان رولفو إلى مصافّ سوفوكليس”، في حين أننا قد نجد كتّاباً عديدين غيرَه ممّن كثرُت تآليفهم، وتعدّدت كتبُهم ، وتنوّعت عطاءاتُهم، وغزرت إنتاجاتُهم، وكثرت مجالات ُإهتماماتهم، ولكنّنا مع ذلك قد لا نجني من وراء “غزارتهم” هذه طائلاً  يُذكر.

بين التأنّي والعَجَلة

والكاتب  المُستعجل أو المُتسرّع سرعان ما يُكتَشف أمرُه من خلال كتاباته التي إستعجل نشرَها ، هذه الكتابات قد تفتقد إلى المقوّمات والمعاييرالضروريّة للكتابة، أو قد تنقصها عناصر النّضج اللاّزمة التي تجعل من الإنتاج الأدبي عملاً جيّداً أو على الأقل مقبولاً، وصالحاً للنشر ، وقد تصبح هذه الكتابات، فى بعض الأحيان، أشكالاً بلا مضامين ذات قيمة، أو على العكس من ذلك، قد تغدو مضامين قيّمة، في قوالب أدبية ابداعية هشّة وضعيفة . أمّا الكاتب الجادّ المتأنّي الدّؤوب والمطّلع فغالباً ما تظهر في كتاباته إرهاصات، وأمارات، وعلامات تنبئ، وتُفصح،وتُخبر عن ولادة كاتب جيّد، وهنا يتّضح الفرق بين الكاتب الأوّل الذي لا يبذل أيّ جهد يذكر في البحث، والمثابرة، والتحصيل، والتتبّع ،والإطّلاع المتواصل ، وبين الكاتب الثاني الذي لا يدّخر وسعاً، ولا يألُو جهداً فى إقتفاء بلا هوادة ولا وَهَن خطىَ الفكرالخلاّق، والإبداع الرّاقي في كلِّ مكان داخل وطنه أوخارجه ، أيّ أنّه يتتبّع عن كثب ومثابرة ، ويقرأ بدون هوادة،ويهضم حتّى الشّره وباستمرار كلّ ما يُنشر في الثقافات الأجنبية الأخرى من جيّدِ وجديدِ الأعمال الإبداعية المكتوبة وأنجحها فى مختلف اللغات،والثقافات.

بين القراطيس والأسفار

ينبغي إذن على هؤلاء أن يوجّهوا عنايتهم، وأن يركّزوا إهتمامهم في المقام الأوّل على الإطّلاع الواسع، وعلى المزيد من التحصيل والتتبّع، وأن يبتلوا بالفعل بشره القراءة حتى التّخمة ، فكلّ إناء يضيق بما فيه إلاّ إناء العلم فإنّه يزداد إتّساعاً ..! ،وقديماً قيل ” منهُومَان لا يشبعان طالبُ علمٍ وطالبُ مال” ..! وهذا الأخير أضحىَ فى زماننا أكثرَ تواجداً وإلحاحاً من سابقه، وهذا شئ يُؤسَف له حقّاً، و لا ينسى الكاتب الجيّد أبداً أنّ أكبر الكتّاب من مختلف الأجناس، والأعراق قد يقضون الليلَ كلّه، أو معظمَه، أو شطراً منه بين أكوام الكتب، والمخطوطات، حتى يغلبهم النّوم، ويلفّهم الكرىَ تحت جناحيْه، فيبيتون بين أحضان الكراريس، وبين دفتيْ القراطيس، والأسفار ، والمجلّدات، وهم يعرفون، ويستوعبون جيّداً فحوى تلك المقولة الشهيرة القائلة : مَنْ طلب المعالي سهر الليالي، كما أنّهم يعرفون كذلك كنه، ودلالةَ، وعمقَ ،ومعنى، وبُعدَ الأحجية الأدبية اللفظيّة الطريفة القائلة : ( إذا أردتَ الكرَامَهْ  / فقلْ للكَرىَ مَه) …! ليتنا إذن والحالة هذه – كما تذهب الكاتبة الدكتورة نادين طربيّه مُحقّةً – ( نعود ولو مرّةً إلى زمن الشّعر إلى زمن الفنون…ليتنا نقدر على غربلة هذا الطّحين المزغول ،ليتنا نفهم أنّ من يشتعل بسرعة سينطفئ أسرع… لا تستعجلوا المجد ).!

هل أبْصَرْتَ مَحبُوباً يُعَارُ !؟

وأخيراً ،وليس آخراً أقول لمزيدٍ من القراءة والمتابعة، والتحصيل علي الكُتّاب والمُبدعين ، وعلي الكاتبات والمُبدعات بإقتناء الكتب ،ومتابعة الجديد من إصداراتها الجديدة، فالمطابع تقذف لنا كلّ يوم العديد من ثمراتها، وذلك لتشجيع النشر، والحثّ على القراءة،ورفع معنويات الكتّاب،والناشرين، والمؤلّفين، والمبدعين الذين أضنتهم معاناة الخلق، والعطاء، والسّهر، والإبداع، والمتابعة، والمثابرة، والمواظبة.. وعليهم ،وعليهنّ ألاّ يستعيرُوا أو يستعرنَ الكتبَ أبداً فإعارة أو إستعارة الكتب عار..! وفى ذلك يقول أحدُ الأدباء الظرفاء العارفين : 

ألاَ يا مُستعيرَ الكُتْبِ دعني / فإن إعارتي للكُتبِ عارُ

ومحبوبي من الدّنيا كتابٌ / وهل أبصرتَ محبوباً يُعارُ !؟

ويقول شاعر آخر:

أجودُ بِجُلِ مالي لا أُبالي / وَأبْخلُ عندَ مسألةِ الكِتابِ

وذلكَ أنني أفْنيْتُ فيه / عزيزَ العُمرِ أيَّامَ الشبابِ

والكتاب الذي يُعار قد لا يُردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك، إذ يُحكىَ أنّ الكاتب الفرنسي إميل زولا صاحب (نانا مأساة إمرأة مُستهترة) زاره ذات مرّة أحدُ أصدقائه في بيته، وعندما بدأ يطّلع ويتفقّد مكتبة زولا الكبيرة، فيأخذ كتاباً  يتفحّصه ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة، وفجأةً وقع نظرُه على كتابٍ كان يبحث عنه منذ مدّة، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال له زولا على الفور: لا، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يُعار لا يُردّ أبداً إلى صاحبه، والدّليل على ذلك أنّ مُعظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة مُعارة !، وقال أحدُ الكتّاب الكولومبيّين: إنّ الذي يُعيركتاباً إقطع له يداً واحدةً، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له الإثنتين !.

وكان الكاتب الإيرلندي السّاخر جورج برنارد شو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة بلندن ، وفجأة وقع نظرُه على كتابٍ له كان قد صدر حديثاً  وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير من دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقةً ببعضها، كما كانت العادة بالنسبة إلى الكتب الصّادرة فى ذلك الإبّان، فاشترى شّو الكتابَ، وكتب تحت الإهداء القديم ما يلي : برنارد شو يُجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه إليه من جديد !…

دراسة الأديبة الرّقيقة، والكاتبة الأنيقة، الدكتورة نادين طربيه  “الكتابة الابداعيّة بين الكميّة والنوعيّة” هي التي أوحت لنا بهذا المقال، لها منّا والحالة هذه ، جزيل الشّكر ، وعميق الامتنان على هذا الإبداع الجميل، وعلى هذا الإمتاع العليل. 

****

(*) كاتب،وباحث، ومُترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديميّة الإسبانيّة – الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *