حكاية من حكايات الزمن الجميل: الـ 40 دقيقة الشيطانية التي حولت مطار بيروت الدولي إلى كرة نار ودخان

Views: 508

المحامي معوض رياض الحجل

طرحنا في المقالة السابقة السؤال التالي: هل الزمن الجميل حقيقة أم وهم؟ جزء هام من الجواب نردهُ في حيثيات في المقالة الحالية من خلال التوسع في شرح تفاصيل أحد أهم الاحداث المأسوية في ذاك “الزمن الجميل”. نقصدُ بذلك تفجير 13 طائرة مدنية كانت راكنة في مطار بيروت الدولي في ليل 28 كانون الاول 1968. الجهة الاجرامية المُنفِّذة كانت فرقة كومندو تابعة للعدو الاسرائيلي. 

واليكم نَسردُ التفاصيل استنادًا إلى ما شاهدهُ وسمعهُ صديق (موظف في مطار بيروت الدولي – متقاعد): “الساعة التاسعة مساءً بتوقيت بيروت وقبل أيام قليلة من احتفال اللبنانيين بالعام الجديد، الأنوار الكاشفة تخترق جناح الليل الحالك، فتحوّل أرض المطار الدولي إلى مساحة من نور مختلف الالوان، الآليات تقطع الطريق بين بيروت والمطار ذهابًا وأيابًا بسرعة جنونية، قاعة المسافرين في حرم المطار تعجُ بالنشاط والحركة. هذا رجل أجنبي يودِّع أصدقاءهُ وأحباءهُ وهناك سيدة في مُقتبل العمر تختضن طفلها الرضيع الذي لم يتجاوز الشهور الستة من عمرهِ وتتجه بسرور وطمائنينة نحو مكتب الاستعلامات، وهنالك مضيفة طيران رشيقة القوام، تمشي برشاقة بإتجاه المدرج، الكل في حركة عادية … عشرات المسافرين ومئات المودعين هنا وهناك يتبادلون عبارات الوداع، أو يشربون القهوة أو الشاي في مقهى داخل المطار. المُذيع يُعلن عبر مكبّرات الصوت للمُسافرين باللغات الثلاث الرئيسية (أي العربية والفرنسية والانكليزية) عن موعد مُغادرة طائرة مُتجهة إلى الرياض. المسافرون يتوجهون تباعًا نحو مدخل الطائرة. الجماهير من أعلى شرفة مطار بيروت الدولي يلوِّحون بأيديهم…

فجأة، أخترق الجو الفرح والهادئ هدير مروحية “هليكوبتر” وتبعتها ثانية فثالثة ورابعة. الهدوء يُخيّم على أرض المطار، وفي الساعة الثانية عشرة أجتمع مجلس الوزراء وناقش موضوع الغارة، أستمر مُجتمعًا حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، صرّح الرئيس عبدالله اليافي على اثرهِ بأن المجلس أطلع على كل تفاصيل الحادث، وأرسل أستدعاء عاجلًا لسفراء الدول الاربع الكبرى لمقابلة رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو ووزير الخارجية الحاج حسين العويني، وقرر تقديم شكوى عاجلة ضد العدو الاسرائيلي إلى مجلس الامن الدولي للمطالبة بإدانتهِ.

وأنتشرت المعلومات عن العدوان الغاشم في جميع أنحاء البلاد والعالم كأنتشار النار في الهشيم. وفي الصباح دُعي النواب إلى عقد اجتماع عاجل في ديوان رئيس المجلس النيابي صبري حماده، لمناقشة حيثيات الحادث الفظيع… وقد أختلف المجتمعون في الرأي، ووزعوا الاتهامات يمينًا ويسارًا. وأخيرًا تم الاتفاق بينهم على دعوة لجنتي الدفاع والخارجية لبحث الموقف الناجم عن العدوان السافر، وأسبابهِ ونتائجهِ. وكذلك دُعي مجلس النواب مساء اليوم نفسهِ إلى عقد جلسة عاجلة. في هذه الاثناء كان رئيس الحكومة عبدالله اليافي ووزير الخارجية الحاج حسين العويني يجتمعان بسفراء الدول الكبرى، أي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، الذين أستنكروا العدوان الفظيع على سيادة لبنان وأراضيه وسلامة أبنائهِ وابدوا عطفًا متزايدا… ثم توجّه السفراء الاربعة الى القصر الجمهوري حيث استقبلهم الرئيس شارل حلو، الذي شرح لهم تفاصيل العدوان على مطار بيروت الدولي وسلمهم مُذكرة الدولة اللبنانية إلى حكوماتهم. ثم اجتمع مجلس الوزراء وقرر تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الامن الدولي ودعوته فورًا الى الانعقاد وشُكل وفد لبنان الى اجتماعات مجلس الامن.

وأجتمع مجلس الأمن الدولي فتكلم مندوب الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي وفرنسا وبريطانيا فأدانوا جميعًاالعدو الاسرائيلي لتعديهِ على سيادة لبنان وأمنهِ، البلد المسالم.

ولكن… ألم يكن العدو الاسرائيلي يحسب حسابًا للادانة قبل أن يُقدم على تدمير كامل اسطولنا التجاري الجوي. 

الجواب، نعم… كان العدو الاسرائيلي يعرف جيدًا (ومُسبقًا) موقف مجلس الأمن الدولي ، ولكنهُ نفّذَ خطتهُ الارهابية من دون تردد، وخسرت الدولة اللبنانية جراء العدوان، دفعة واحدة، ما لا يقل عن 150 مليون ليرة واكثر من ذلك… لقد خسر لبنان ولو لمدة قصيرة دورهُ الطليعي في حقل الطيران الدولي. كل ذلك حدثَ في مدة لا تزيد عن أربعين دقيقة من دون أن نتمكن من أن نقول للعدو الصهيوني وهو يُدمر كامل أسطولنا الجوي، ويلحق الرعب والخوف باللبنانيين جميع اللبنانيين “ما أحلى الكحل بعينيك”.

تفاصيل الليلة الجهنمية

بالعودة إلى تفاصيل ما جرى في تلك الليلة الجهنمية، الكل تحول بأنظارهِ نحو المروحيات الغريبة التي تحوم بكثافة فوق مدرج المطار. وفجأة أنفجرت قنبلة في الجهة الشرقية من مدرج المطار، وقنبلة ثانية في الجهة الجنوبية وثالثة ورابعة وخامسة. وخيّم على المطار، دخان أسود قاتم. ثم أرتفعت بكثافة السنة اللهب والنار في كل حدب وصوب. 

عناصر باللباس العسكري، يقفزون أمام طائرة الركاب التي تستعد للاقلاع من أرض المطار، يقتربون من الطائرة، بحركة مُحكمة… ويصرخون للركاب المسافرين: “غادروا الطائرة” عودوا إلى بيوتكم”. الرشاشات موجهة نحو باب الطائرة… الركاب يهبطون الواحد تلو الآخر مذعورين وعلامة الدهشة على وجوههم.

 

أبتعد الركاب مسافة قليلة، وسُمع في أرض مطار بيروت الدولي صوت أنفجار مدوي، أعقبتهُ عدة أنفجارات هائلة… والسنة اللهب والدخان ترتفع في كل مكان. تحوّل مطار بيروت الدولي في ظرف دقائق إلى “كرة نار”. الناس يركضون يمينًا ويسارًا، وهم يصرخون بأعلى صوتهم: لقد نسفوا المطار، الكل يندفع خارج مبنى المطار، مروحيات الهليكوبتر تحوم بحركة دائرية حول المدرج… الرصاص يُلعلع هنا وهناك … النار ترتفع في سماء المدرج، الناس يندفعون بشكل جنوني بإتجاه العاصمة بيروت. الذعر والدهشة يسيطران على الجميع… سيارات الاطفاء تقترب بسرعة جنونية من مكان اندلاع النيران، وتسلط خراطيم مياهها نحوها. أصوات النساء والاطفال ترتفع بالبكاء والنحيب. الكل في حالة ذهول. هذا رجل أمن يقف أمام المدخل . وذاك يقف بالقرب منه. الاصوات تعلو وتعلو في كل مكان. الطريق العام المحازي للمطار غصّ بالجماهير من كل الاعمار قدموا من كل المناطق اللبنانية يتفقدون حرم المطار ويتساءلون بدهشة ماذا حصل. العدو الاسرائيلي هاجم المطار. ماذا حل بالمسافرين؟ بالموظفين العاملين في المطار هل ماتوا، هل نسفوا. ما هذه الليلة الرهيبة ماذا فعلت الدولة اللبنانية. الم تدافع، الم تستطع حماية حرم المطار من الاعتداء. صفارات الاطفائية تقترب من مكان الانفجار. أصوات ترتفع، أطئوا الانوار. ماذا حل بكم أيها اللبنانيون أين أنتم. العدو الاسرائيلي يهاجمنا، ينسف طائراتنا أصوات ترتفع: اخلوا الطريق. هذه سيارة رئيس الحكومة عبدالله اليافي. هذه سيارة وزير الداخلية الشيخ بيار الجميل وهذه سيارة وزير الاشغال العامة السيد ريمون أده. لقد عرفوا أخيرًا بالهجوم الارهابي فجاؤوا مسرعين يتفقدون شخصيًا حرم المطار، ويحاولون تحديد حجم الخسائر والاضرار.

ها هو رئيس الحكومة عبدالله اليافي يترجل من سيارتهِ وحولهُ وزير الداخلية فوزير الاشغال العامة السيد ريمون أده، أنهم يتقدمون نحو الشرفة، هذا مدير المطار، يُشير بيديه نحو اللهب المتصاعد. لقد نسفوا المطار، الطائرات الجاثمة أحترقت جميعها بشكل كامل. أحترقت أربع، خمس، ست، تسع.طائرات. موظف آخر يقترب. لقد أحصي العدد…ثلاث عشرة طائرة أحترقت بالكامل، لم يصب أحد من الركاب والموظفين بأي أذى جسدي، الجميع بصحة جيدة. أقتصرت العملية الارهابية على نسف الطائرات…

 

أصوات صفارات الدرجات… رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو وصل إلى المطار، لقد علم بالحادث الرهيب، جاء بنفسهِ، يستطلع الخبر. رئيس الجمهورية يترجّل من سيارته، الرئيس عبدالله اليافي والوزراء يهرعون باتجاهه. ماذا حصل يقول الرئيس الحلو، هذه كارثة كبيرة. أين عناصر الحرس التابعة للمطار؟.

وساد وجوم بين الحاضرين، لقد كان منظر المطار مُبكيًا حقًا. أن كل شيء على المدرج يحترق، لم تسلم طائرة واحدة من الطائرات الوطنية… نُسفت جميعًا، خزانات مادة البنزين بقيت سليمة، لم يقتربوا منها. الخسائر فادحة، مئات الملايين من الليرات.

عاد بعدها الرئيسان والوزراء إلى القصر الجمهوري بينما استمر رجال الاطفاء طوال الليل في أخماد النار الملتهبة وأرتفع عدد رجال الامن، وأنتشروا في كل مكان مُدججين بمختلف أنواع الاسلحة، وسُدت جميع المنافذ والطرق المؤدية الى مطار بيروت الدولي.

استقالة حكومة اليافي

الاعتداء الغاشم دفع برئيس مجلس الوزراء عبدالله اليافي إلى تقديم استقالة حكومته وقد تم تشكيل حكومة جديدة برئاسة الرئيس الراحل رشيد كرامي.

 

بعد أيام قليلة صدرت بيانات استنكار عن عدة دول اجنبية تدين الاعتداء على مطار بيروت: في بلغراد علقت الدوائر اليوغلاسفية على العدوان الاسرائيلي على مطار بيروت فقالت ” أن هذا العدوان المُتعمد ضد مطار مدني كمطار بيروت، هو مُغامرة حمقاء وخرق فاضح لشرعة الامم المتحدة والمبادىء التي تقوم عليها أسس التعامل الدولي. ” وفي طهران أصدرت وزارة الخارجية الايرانية بيانًا أستنكرت فيه العمل التخريبي الذي قام به رجال الكومندو الاسرائيلي ضد مطار بيروت الدولي. وفي أنقره، أدانت الحكومة التركية الهجوم الاستفزازي على مطار بيروت الدولي. 

وقد عقد مجلس نقابة المحامين في بيروت جلسة طارئة أعلن على أثرها شجبهِ بشدة الاعتداء الاثيم على مطار بيروت الدولي من قبل العدو الذي أرتكب خرقًا فاضحًا لميثاق الامم المتحدة.

وقد أعربت نقابة عمال ومُستخدمي شركة ” طيران الشرق الاوسط الخطوط الجوية اللبنانية” عن ولاء مُنقطع النظير وعن استعداد رائع للتضحية عندما أبلغت بالنيابة عن جميع عمال ومُستخدمي طيران الشرق الاوسط الخطوط الجوية اللبنانية الشيخ نجيب علم الدين، رئيس مجلس الشركة، استعدادهم ، اذا لزم الامر، للعمل بدون أجر ولاي مدى زمني مطلوب لمساعدة الشركة على التغلب على اي مشكلة ناشئة عن الاعتداء الاسرائيلي. 

 

اشارة إلى أنهُ من بين الـــــ 13 طائرة التي تم تدميرها كان يوجد هناك ثمانية تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط؛ والتي كانت تملك إير فرانس 30 % منها، 5 % لأفراد لبنانيين و65 % لشركة إنترا للاستثمار. كانت انترا مؤسسة حكومية كويتية، قطرية، لبنانية، وأمريكية، وكانت الولايات المتحدة ممثلة بواسطة شركة الائتمان السلعي (بالإنجليزية: Commodity Credit Corporation)‏ والتي كانت مملوكة ماليًا لبنك إنترا، في حين كانت الخطوط الجوية الدولية اللبنانية تمتلك 3 من الطائرات المدمرة والتي كانت تمتلك الولايات المتحدة 58% منها. فقدت الخطوط الجوية عبر المتوسط طائرتين مملوكتان لأفراد لبنانيين.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *