فرنسيس المرّاش طليعة اللّيبراليّين العرب
د. كرم الحلو*
ثمّة لحظة ليبراليّة في فكرنا النهضويّ العربيّ لو قُيِّضَ لها أن تتجذَّر وتتّسع، لكان لها أن تُحدِث تغييراً أساسيّاً ونَوعيّاً في حركة الحداثة العربيّة يُخرِجها من عثارها المُزمِن، ويَدفَعُها في اتّجاه التقدُّم المُجتمعيّ الشامل. هذه اللّحظة مُتمثِّلة بشكلٍ أساسيّ في رأينا، في فكر فرنسيس المرّاش، الرائد اللّيبراليّ الذي طَرَحَ في ستّينيّات القرن التاسع عشر ومَطلع سبعينيّاته المَبادئ الأساسيّة لحقوق الإنسان قبل الإعلان العالَميّ لهذه الحقوق بنحو ثلاثة أرباع القرن، فضلاً عن طَرْحِهِ أفكاراً جديدة في الفكر العربيّ تَخرج عن المألوف، وتُعيد إنتاج قيَم الفكر اللّيبراليّ ومَبادئه في الثقافة العربيّة، بأسلوبٍ عبقريّ وإبداعيّ، في وقتٍ كان فيه الفكر العربيّ يتعثَّر في الخروج من ظلاميّة القرون الوسطى.
إلّا أنّ المرّاش، على الرّغم من ريادته وتميُّزه، يكاد يكون مجهولاً حتّى لدى النّخبة المُثقّفة العربيّة. فإذا ما استثنينا بعض الأبحاث الجادّة، والتي تعود إلى نهاية القرن الماضي ومَطلع هذا القرن، لم تتعدّ الدراساتُ التي تَناولته العموميّات، وغالباً ما كانت تنساق إلى أحكامٍ إيديولوجيّة غريبة عن اهتماماته الفكريّة، مُكرِّرةً الأخطاء ذاتها لجهة مَولده ووفاته وطباعة مؤلّفاته وحقيقة مَراميه الفلسفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.
بيئته، أسرته وحياته
وُلِد فرنسيس المرّاش في العام 1836 في مدينة حلب التي اضْطلعت بدَورٍ بارزٍ في النهضة العربيّة الحديثة، حيث اتَّفقت أكثر المَصادِر التاريخيّة على أنّ بداية النهضة، التي عمَّت بلاد الشام في القرن التاسع عشر، كانت في حلب في القرن الثامن عشر. ففي هذه المدينة تأسَّست أوّل مَطبعة عربيّة سنة 1702، وعن حلب، وِفق مارون عبّود، أَخذ لبنان لغةَ الضادّ. ومنذ أواسط القرن التاسع عشر تميَّزت حلب بعلاقاتٍ تجاريّة نَشِطة مع الغرب كانت من أهمّ العوامل في انفتاح العرب على الثقافة الغربيّة.
نَشأ المرّاش وتَرَعْرَعَ في كنف عائلةٍ عريقة اشتهرت بالأدب والعلوم منذ القرن الثامن عشر، وبَرزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في طليعة حركة النهضة العربيّة، حتّى أنّ فيليب طرازي اعتبرَ منزلةَ آل مرّاش بين نصارى حلب بنهضتهم الأدبيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كمَنزلةِ آل اليازجي وآل البستاني في الديار الشاميّة. ففتح الله والد فرنسيس عُرف بأسفاره إلى أوروبا وبنزعته اللّيبراليّة، ووصَفه فارس نمر بـ “الحرّ الحلبي الذي قضى ردْحاً من الزَّمن يُرسل شعاع الحريّة إلى أبناء سورية من لندن وباريس”. ولفرنسيس أخٌّ وأختٌ هُما أيضاً من روّاد النهضة العربيّة، فأخوه عبد الله ترك آثاراً مُهمّة، منشورة ومخطوطة، ووصفه إبراهيم اليازجي بـ “كوكب المَشرق الطّالِع في سماء المغرب”.
أمّا مريانا أخته، فهي “الكاتبة الأولى التي نَشرت أفكارها في الصحف العربيّة” كما جاء في “تاريخ الصحافة العربيّة” لفيليب طرازي، وكان بَيتُها “أوّل صالون أدبي في الشرق العربي بمفهومه الحديث” وفق سامي الكيّالي.
درسَ المرّاش العلومَ اللّغويّة والاجتماعيّة والطبيعيّة والفلسفة والدّين واللّاهوت واللّغتَيْن الفرنسيّة والإيطاليّة، وأمضى أربع سنوات دارِساً الطبّ في حلب على يَد يوحنّا ورتبات (1827- 1908)، ثمَّ سافَرَ إلى باريس في العام 1866 للحصول على الإجازة في الطبّ، لكنّه أُصيب بشللٍ في أعصاب بَصَرِه. فعاد إلى حلب ووضَع عدداً من مؤلّفاته المهمّة، وكَتَبَ مقالاتٍ في صُحفِ ومجلّاتِ زمانه. ما يؤكِّد أنّ المرّاش لم يَعُد من باريس مكفوفاً كما يذكر جرجي زيدان ويوسف الدّبس. (https://emdrprofessionaltraining.com) وقد توفّي سنة 1874 على عكس ما جاء في تراجم شيخو وزيدان والدِّبس الذين جعلوا وفاته سنة 1873.
الفِكر اللّيبراليّ للمرّاش
فرنسيس المرّاش، هو أوّل مُفكِّر عربي صاغ فكره اللّيبرالي في منظومةٍ هادِفة في وقتٍ كان فيه الشرق العربي يرزح تحت أشكالٍ شتّى من التخلّف والاستبداد. وإذا كان روّاد النهضة العربيّة قد أجمعوا على نقْد المَظاهر الاستبداديّة والرجعيّة للمُجتمع العربي في ظلّ السلطنة العثمانيّة، فإنّ المرّاش كان الأكثر جذريّة، وأوّل مَن حاوَل في الفكر العربي الحديث إسناد مفهوم الحريّة إلى أُسسٍ فلسفيّة. طَرَحَ المرّاش مسألةَ الحريّة طرْحاً فلسفيّاً، فبحثَ في الحريّة الطبيعيّة وإمكان وجود الحريّة في العالَم المادّي والطبيعي الذي تُقيّده قوانين فيزيائيّة وطبيعيّة صارِمة، وخَلص إلى أنّ الإنسان شأن سائر المخلوقات خاضِعٌ إلى ما لا ينتهي من العبوديّات، إذ “لا حريّة في الخليقة ولا خلاص من العبوديّة”.
في المُقابل، يُواجِه المرّاش استحالة الحريّة في الطبيعة بالقول بحريّة أدبيّة، هي واجِبة وضروريّة وتقوم على “التعبُّد لأحكام دولة التمدُّن والصلاح” فالتعبُّد لأحكام هذه الدولة هو عَيْن الحريّة، لأنّ اعتناق الإنسان واجباته لا يُدعى عبوديّة، بل يكون “داخِلاً في حقيقة الحريّة”.
على أساس الحريّة الأدبيّة، بنى المرّاش فِكرَه اللّيبرالي، فهذه الحريّة هي التي تكفل للإنسان حقّ اختيار السلطة السياسيّة، وحقّ مُراقبتها للتأكُّد من صلاح قراراتها وأحكامها، وحقّ الحماية من الجور والاستبداد، وهي التي تكفل للجميع حقوقاً مُتساوية في العيش والأمن والتعبير.
في هذا الإطار الفلسفي، جاءت إدانة المرّاش للظلم والاستبداد وثورته على التخلُّف والفساد. فالمرّاش لم يترك وجهاً من وجوه الحُكم الاستبدادي إلّا وخَصّه بالنقد اللّاذع والجريء. ندَّد بالحُكّام وألقابهم المزوَّرة وحذَّر الطُّغاة من عاقبة جورهم وتسلُّطهم. ويقول في هؤلاء: “قد ظَلَموا واستكبَروا وبَغوا وقد أتوا من شرِّهم بفنون… قد غفلوا عن كلّ صالحة، لكن عن الفحشاء لا يغفلون”. ويتساءل المرّاش: كيف لا يُدرِك العمومُ هذه الأهوال التي تَفترسهم، ليجد السبب في جهل الناس، فهل استعبد الورى سوى الجهل؟ إنّ الجهل مجلبة البُطُل. وإذا لم يكُن واضحاً أن المرّاش كان يدعو إلى الحُكم الديمقراطي البرلماني، فمن المؤكّد أنّه طَرَحَ مفهوماً ليبراليّاً للدولة بتأثيرٍ من روسّو ونظريّته في العقد الاجتماعي. فأهمّ دواعي السياسة النَّظر إلى المصلحة العامّة، وأن تجري شرائع الدولة على كلّ أبنائها من دون أدنى امتياز بين الأشخاص، وللشعب حقّ مُراقَبة الدولة. فالسياسة إذا وقعت في غير محلّها، تطلّب من الشعب إنقاذها. لكنّ المرّاش، على الضدّ ممّا يَعتقد البعض، لم يَذهب إلى حدّ الطَّرح الاشتراكي والمُساواة الاجتماعيّة، فما تطلَّع إليه هو المُساواة في الحقوق السياسيّة، وليس إلغاء التفاوُت الطبقي.
هذا المنحى اللّيبرالي في الفكر السياسي للمرّاش تمثَّل بصورةٍ جليّة في مَوقفه من الدّين والعقل والمرأة والعنصريّة والفئة البائسة في المُجتمع الإنساني. فالمرّاش كان حازِماً في رفض استخدام الدّين لأغراضٍ خصوصيّة، وقد نادى بالمَحبّة الوطنيّة المُنزَّهة عن التعصُّب الطائفي الذي هو سبب الانحطاط والتخلُّف، داعياً إلى إعطاء العقل الحقّ في تأويل الحقائق الدينيّة وتعليلها. وقد ركَّز في مؤلّفاته كلّها على العقلانيّة ومُحارَبة الجهل والأباطيل، لإيمانه بالدَّور المَركزي للعقل في تقدُّم المُجتمع الإنساني، وفي نهوض المُجتمعات الشرقيّة بخاصّة.
ويشكِّل مَوقف المرّاش من الفئة البائسة في المُجتمع بدايةَ الانعطاف نحو الفئات الدنيا في الفكر العربي الحديث بإقراره بحقوقها السياسيّة والاجتماعيّة وبدَورها الأساسي في الإنتاج، وقد بوَّأها مَكانةً مُتميّزةً بين سائر الفئات، ونَظَرَ إلى الفقراء، لا بوصفهم مَساكين يستحقّون الشفقة والرّحمة، بل كأصحاب حقوق سياسيّة واجتماعيّة.
والمرّاش ليبراليٌّ في موقفه من المرأة، مُتقدِّمٌ على سواه من النهضويّين بشَجبه الزواج القسري، وتأكيده على احترام رأي المرأة في اختيار الزواج بمَن تُحبّ. كما أنّه مُتقدِّمٌ على هؤلاء في إدانة العنصريّة، وهو أوّل مُفكِّر عربي يُدين الرّقَّ إدانةً مُطلقة. وقد طَرَحَ هذه المسألة في كِتابه “غابة الحقّ” في العام 1865 بينما كانت الحرب الأهليّة الأميركيّة لا تزال مُستعِرة، داعياً إلى إبطال الرّقّ على أساس “الحقّ الطبيعي” الذي يُشدِّد على حريّة الإنسان الأدبيّة، باعتبارها حقّاً طبيعيّاً لا يُمكن اغتصابه أو التنازُل عنه.
والمرّاش، على الرّغم من انبهاره بالتمدُّن الغربي الذي رآه مُحقِّقاً لدولة العقل، عبَّر في مقالةٍ نشرها في مجلّة “الجنان” سنة 1870 عن رفْضِه لمآل التمدُّن الغربي بقوله: “بئس التمدُّن الذي، وهو يهتف ببوق الأفراح والبشائر والغناء، تضجّ حوله وَلاوِلُ الأرامل وعويلُ اليتامى وزفراتُ الفقراء”. وتلك أول إدانة في فكرنا العربي للّيبراليّة المتوحّشة.
هكذا، فالطروح اللّيبراليّة التي بثَّ المرّاش أولى طلائعها في الفكر العربي، تؤكِّد ريادته في استيعاب ثورة الحداثة، وتجعل منه بحقّ طليعة اللّيبراليّين العرب.
***
*كاتب من لبنان
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق